النجم حين هوى: أحوال استدعاء اللون الأزرق* ميموزا العراوي
النشرة الدولية –
واجه العاملون في تلفزيون المستقبل، وقبلهم الموظفون في جريدة المستقبل اللبنانية ذات المصير حينما أعلن رئيس الوزراء الحالي سعد الحريري إقفال أبوابه تاركا بصيص ضوء لعودته في شكل من الأشكال. وهو إن عاد فلن يعود بنفس الذهنية ولا بنفس الروح. هذه من المُسلّمات.
يُقرأ هذا الحدث من خلال الوضع اللبناني السياسي الذي ازداد تأزما في السنوات الأخيرة. ويردّ الرأي العام، وقول رئيس الوزراء على السواء أن السبب وراء هذا الإقفال هو سبب مادي.
غير أن من شارك في ولادة التلفزيون سنة 1993 وكان من العاملين الذين استمروا فيه حتى قبل إقفاله بسبع سنوات لن يكتفي بما قيل رغم أهميته من ناحية و”رسميته” من ناحية أخرى. فهو يعلم علم اليقين المزوّد بالإثباتات أن موت منطق نشوئه والأفكار التي بني عليها هي من تقف وراء التدهور المادي الذي استمر استنزافا لأكثر من عشر سنوات حتى بلغ الحضيض.
أول ذكرى طابعة استطعت العودة إليها كانت لقائي بأستاذي الجامعي علي جابر واهتمامه بأن أكون فردا من “الموجة الأولى” التي أوصلت تلفزيون المستقبل إلى الشاطئ اللبناني بشكل عام والبيروتي بشكل خاص.
سألته “لماذا اللون الأزرق؟” أجابني “هذا لون الشيخ المفضل، أراده أزرق يذكره بسماء بيروت وبحر بيروت. لون يؤاثر الخيال والطموح، ويعبّر عن الحب للحياة”.
يومها أعجبني قوله كثيرا وشعرت في صميم قلبي أنني أود أن أنتمي إلى هذه الزرقة بعد أن أخذت الحرب اللبنانية جزءا مُؤسّسا من حياتنا، وهي المراهقة وأولى سنوات الرشد. إضافة إلى ذلك هل يُعقل أن نرفض هذا “المشروع” الذي يقدّم ذاته على أنه مستقبلي – لبناني حديث ينبذ الطائفية ويسعى إلى إعادة أعمار البلد بشرا وحجرا؟
زرقته المفتوحة المُضاءة بحمرة باطنية نابضة قوامها الحياة جعلتنا نتغاضى عن رغبتنا الشديدة بالاقتصاص من “أمراء الحرب” وأسياد الحاضر الراهن، وهم كُثر. وربما ساهم في حماسي أن أكون من “أمواج” المستقبل كوني من خريجي “مؤسسة الحريري”. هكذا كان حتى 2012، أي قبل انهيار الزرقة.
التقيت هناك بالعديد من زملائي في الجامعة الذين اختاروا مثلي اختصاصا لم يكن رائجا البتّة. كان عرّابنا أستاذنا الجامعي علي جابر وعرّاب بداية انطلاق تلفزيون المُستقبل الأثير ليكون رائدا في العديد من النواحي في لبنان وكذلك في العالم العربي.
ومع مرور السنوات تكشّفت أمامنا آفات حادة كانت قد تكوّنت في كنفها ولم يتم معالجتها على الرغم من استغاثاتنا المُتكرّرة التي لم تكن تلقى آذانا صاغية. ثم رحل علي جابر ومعه تبدّدت آخر نفحات الزُرقة الحقيقية التي سلبت قلوبنا الفتيّة.
تلك الزرقة التي وصفها أتم الوصف الفنان العالمي عاشق الأزرق إيف كلاين في هذه الكلمات “هكذا التقيت بالفراغ.. الفراغ العميق، لأزرق عميق، وإذا بشعور غامر بالحرية والانعتاق استحوذ على جميع حواسي، رسمت عدة أعمال بلون واحد، باللون الأزرق، لكي أرى، لكي أفهم، لكي أنفذ إلى عمق وصيرورة الأزرق.. الأزرق ليس كطلاء، بل كالبهو العميق الذي يكمن في أعماقنا.. الأزرق – المملكة، هو مملكتي التي لا تستطيع العين أن تراها، ولكن تشعر بها كل خلية من جسدي”.
ربما أكون اليوم من هؤلاء الكثر اللذين أوغلوا في التنقيب عن الذكريات التي شكّلوها في بداية حياتهم وفي تلفزيون المستقبل في آن واحد. وإن أردت بصريا أن أتخيل هيئة هذه الاستعادة الغنائية المُملّحة بالشجن لقلتها في شكل “صرة” زرقاء اللون شفافة وخفيفة الثقل تلتصق بنا وكأننا نحملها كما يحمل الشخص المُتنقل على مضض والسائر قُدما على خط الزمن، حاجياته وأغراضه الثمينة. ولكن كما كل الأجنحة التي تسترسل بعيدا كُتب لها أن تهوى، ولكن بعد أن انهارت الزرقة الرؤيوية التي احتوتها لعدة سنوات.
أما إن أردت أن “أستوعب” وأقرّ نهائيا بأن النجم الأزرق قد هوى فعلا، فعليّ أن استدعي اللون الأزرق إلى محكمة القلب. أستعرض أمامه ما قدّمه من أحلام مسلوبة وآفاق ما عادت تشبه شيئا ممّا وُعدنا به. وسأورد أمامه نتائج بعض الأبحاث العلمية المُكتشفة حديثا، منها حقيقة أننا لم نر يوما إلاّ وهما، فالبشر كما تقول الأبحاث “لا يرون اللون الحقيقي للسماء، فهي ليست زرقاء كما تظهر بالعين المجردة، بل هي في الحقيقة بنفسجية اللون”.
سأطلب منه توضيحا مفصلا حول ذلك دون رحمة. وسأعبّر أمامه عن كُرهي العتيق للون البنفسجي المقيت الذي يحيلني إلى حب الموت وليس حب الحياة. لكنني لن أحاسبه لأن الأبحاث ذاتها تضيف “بأن الإنسان بشكل عام لديه استعداد بصري – فيزيولوجي أكبر لمشاهدة اللون الأزرق من السماء بدلا عن اللون البنفسجي”.
هل نحن شركاء في انهيارك يا أزرق من حيث لا ندري؟ كيف لا ونحن اعتبرنا ذاتنا تحت رحابتك، ولكن أيضا من أمواجك العاتية التي كنا نشاهدها يوميا وكأنها مرايا أمامنا من نوافذ “مبنى الروشة – تلفزيون المستقبل”.
العرب اللندنية