بلد النساء العمياوات* لمياء المقدم

النشرة الدولية –

ليس من بين الذين أحببتهم نهر، رغم عشقي الشديد للأنهار. جميعهم رغبوا في أن يكونوا جبلا ثابتا، رأسه في السماء وأقدامه في الأرض. الجبال جميلة كما نعرف، وفضلا عن ذلك، فهي قوية وثابتة وواثقة وقاسية. لا تقسو الجبال على نفسها فقط، ولكن أيضا على من يعيشون حولها، وفوقها وتحت أقدامها.

قرأت في إحدى الروايات أنّ شاعرا شهيرا كان يقيم في قرية بأحد أرياف إنكلترا وأنه عندما توفي، احتار الدارسون في تفسير القسوة والدم والعنف التي ميّزت أشعاره، ليكتشفوا أن قبالة بيته، كان يوجد جبل في البعد يسدّ عليه الأفق.

أظن أن الطبيعة داخلنا، وأن ما نعيشه من ظروف ومعطيات خارجية يتحوّل إلى سلوك وصفة تميزنا. أستطيع أن أدّعي أن سكان المناطق الساحلية هم الألطف دوما، الأكثر ضحكا ومرحا، الخفيفون، الهشّون كنسمات الصيف، لأن البحر، وامتداده، ورطوبته، وهواءه، وبحارته، وأسماكه يمنحونهم الكثير الكثير من الجمال والرقة.

سكان الصحراء هم بلا شك الأقدر على الصبر، والصمت والاستماع، قليلو الكلام، لأن الكلام في الداخل، ولأن الصوت إذا خرج أفزع، ولهذا هم حكيمون، حكمة المتأمل، حزينون نوعا ما، لأن المعرفة تثقل ولأن اليقين شقاء. قد لا يجدون طريقهم على الأرض ولكنهم سيجدونه دائما في السماء، تلك الخارطة التي تتكشّف لهم وحدهم وتمنحهم أسرارها كاملة.

من بين هؤلاء، بحثتُ دائما عن ذلك النهر الذي لا يمكنك أن تشرب منه مرتين، المتجدد تجدد الضوء، الساكت كأنه صديقك الماشي جنبك، يحدثك في سره وتحدثه.

للنهر سحره، ذلك السحر الذي يجعل كل شيء حي ويتحرك. للنهر أسطورته، أغنيته وملحمته، وله غريقه أيضا الذي يشبهه في كل شيء.

وعندما يجفّ لأنه كبر أو تهدّم ستجد أحجاره تدلّ عليه، وستجد عصا الغريق مغروسة في وسطه.

أحبّ الأنهار وأبحث عنها في كل شخص التقية، ليس لأن الأنهار تمنح الحياة، ولا لأنها الأقدر على جمع البشر حولها، ولكن لأنها عميقة وبسيطة في آن، سهلة وممتنعة، حلوة وقاسية، ولأنها أمّ رغم طفولتها التي لا تنتهي.

يأتي النهر ليقول شيئا دائما، ويذهب دون أن يقوله.

ومرة حكى لي نهر قصته كاملة وكانت تشبه قصة الجبل الذي احترقت أشجاره وبقيت معلّقة على أطرافه، وقصة البحر الذي لم يعُد البحارة منه ولا الريح. كانت قصة محزنة فبكيت ومن يومها عميت النساء.

وفي بلد النساء العمياوات ذاك ولدت الحقيقة كأنها عين جماعية يمكن للكل أن يستخدمها متى شاء وأينما شاء. في بلد النساء العمياوات يمكن لكل طفل أن يحصل على أمّ، حتى ذلك الذي أنجبته الحاجة، أو الذي جاء من خيال محض.

ومهما تكن الأمور معقّدة إلا أنّ ثقتي في الأنهار بلا حدّ، فهي وحدها القادرة على الجريان مجرى الطمأنينة في البشر. وربما لا أبالغ حين أقول إن من أنجبه نهر لا تقتله العاصفة.

أردتُ ربما أن أحدثكم عن السياسة أو المرأة أو الرجل، أو الحب، أو عن اختلاف أصابع اليد الواحدة، ولكني وجدت نفسي أحدثكم عن النهر، واهب الحياة، صديق الكل: الفقير والغني، الجائع والشبعان، الجاهل والمثقف، صديق الشجرة والكلب، والحصان والأرملة.

ولسوف يأتي يوم تتكشّف لكم فيه نبوءتي هذه ولسوف تدركون قيمة الأنهار في ترتيب حياتكم ومنحها المعنى الأسمى.

بقي أن أقول والعهدة على الماء. إن النهر يأتي ليكسر قسوة الجبل، هشاشة الريح، صمت الصحراء، وتوهان البحر، ويأتي أيضا، ليكمل كل ما ينقص منها، وليشدها حتى لا يبقى منها سوى الصرخة التي أنجبتها.

يحمل النهر الصرخة ويجوب بها الكون كأنها الحقيقة الوحيدة، هو المتجدّد في كل لحظة، المتعدّد كأنه مليون رجل يرقصون في صف، المتوحّد كأنه قطرة تهبط من غصن شجرة على شفتين تنامان في العراء. وهو الجاري بالشيء ونقيضه. هو الحر، الحر.

العرب اللندنية

 

 

زر الذهاب إلى الأعلى