قضية سبي النساء وأزمة الفقه الإسلامي* بابكر فيصل

النشرة الدولية –

أثارت تصريحات أدلى بها رجل دين مصري مؤخرا حول قضية سبي النساء كثيرا من الجدل في الأوساط الإعلامية ووسائط التواصل الاجتماعي، حيث قال إمام وخطيب مسجد السيدة نفيسة بالقاهرة سابقا، عبد الله رشدي، في تغريدة على حسابه في موقع تويتر بجواز المعاشرة الجنسية للنساء المسبيات في الحروب.

في إجابته على ردود الفعل الغاضبة من تصريحاته قال رشدي: “ثار بعض العلمنجية على تغريدتي عن السبية حين سئلت عن معاشرتها فقلت: هي إنسانة ولها احتياجات. فقالوا: “شايفين؟ أهو بيبرر الاغتصاب” نعم للمسبية احتياجات وهي ليست عيبا، وهذه الاحتياجات بالرضا لا بالإكراه، فطالما رضيت بعلاقة بينها وبين سيدها فلا حرج عليها ولا عليه، بالرضا لا بالقهر”.

يبدو جليا أن الرجل لا يُجرِّم السبي من حيث المبدأ، بل هو يُجيزه كممارسة طبيعية تترتب عليها أمور أخرى من بينها ممارسة الجنس بين المسبية وسيدها. وهو إذ يستنكف نقد البعض لتصريحاته، إنما يريد القول إن تلك العلاقة يجب أن تتم بالرضا وليس بالإكراه، ولا يسعى لتجريم السبي من ناحية أخلاقية أو قانونية.

حديث رشدي لا يرتبط فقط بقضية السبي بل يعكس أزمة عامة في الفكر الإسلامي عبَّرت عنها مدارس فقهية ظلت تسيطر على المشهد الديني منذ عدة قرون، وتتجلى هذه الأزمة في العديد من الأمور يأتي في مقدمتها رفض تلك المدارس القاطع لمفهوم القراءة التاريخية للقرآن الكريم وربط تفسير آياته بأسباب النزول وبالسِّياق الذي تنزلت فيه.

تستند حُجة تلك المدارس على مقولة إن القرآن الكريم صالحٌ لكل زمانٍ ومكان، وهي مقولة لا يُعارضها المخالفون لهم في الرأي وإنما يقولون إنها تنطبق في الأساس على القضايا المتعلقة بالعقيدة والعبادات والتي هي بطبيعتها قضايا عابرة للتاريخ ولا تتغير بتغير الزمن.

وكذلك يقول المنادون بضرورة اعتماد القراءة التاريخية إن القرآن الكريم لم يهبط دفعة واحدة كألواح التوراة التي نزلت على موسى الكليم ولكنه تنزَّل على الرسول الكريم مُنجَّما ومُفرَّقا في ثلاث وعشرين سنة، وقد نُسخت كثير من آياته، وأُنسي بعضها، مما يؤكد حقيقة تفاعله مع الواقع التاريخي.

يدَّعي أصحاب هذه النظرة أن إعمال مبدأ القراءة التاريخية للنص القرآني لا يؤثر في قدسيته أو يقدح بأي صورة من الصور في حقيقة تنزله الإلهي، بل يؤكد ديمومته وقدرته على التعامل مع الوقائع المستحدثة.

من ناحية أخرى، يقع المنادون بضرورة تجاهل البعد التاريخي في قراءة النص القرآني في مأزق التناقض مع التطورات التاريخية والحقائق العصرية المُستجدة، ويتجلى هذا المأزق في أوضح صوره عند النظر في قضية الرِّق والعبودية وملك اليمين.

الرِّق كان ممارسة موجودة وسائدة في العالم قبل مجيء الإسلام، والقرآن لم يُحرِّمه تحريما قاطعا تماشيا مع ظروف العصر التي جاء فيها، ولكنه شجع وحض على عتق العبيد انطلاقا من المفهوم الديني الأساسي الذي ينبني على المساواة بين جميع المسلمين في العقيدة.

وقد عرف المجتمع الإسلامي ـ شأنه شأن كل المجتمعات ـ الرق في الغزوات والفتوح، وكانت للمسلمين أسواقا لبيع وشراء العبيد، وقد أقامت الشريعة الإسلامية قواعد التعامل مع الرقيق وفصَّلت فيها كتب الفقه تفصيلا كبيرا ودقيقا.

لقد ميَّزت كتب الفقه الإسلامي بين المسلم الحر والمسلم العبد في الحقوق والواجبات تمييزا واضحا، فكان الأرقاء يقعون ضمن عداد الأشياء والممتلكات والأموال، يُباعون ويُشترون ويُوَّرثون دون حقوق، وكانت الإماء يُستخدمن للمُتعة الجنسية ولا يتوفرن على حقوق الزوجات الحرائر.

وبمرور الزمن، ومع التطور الكبير الذي أصاب المجتمعات الإنسانية حدثت تحولات كبيرة في موضوع الرق أدت إلى إلغائه إلغاء تاما، واعتباره جريمة تُعاقب عليها القوانين، ويرفضها الضمير السليم، وتأباها الأخلاق الكريمة. وشهدت مدينة جنيف في سبتمبر 1962 توقيع الاتفاقية الخاصة بالرِّق، والتي منعت جميع الصور التي يمكن أن تؤدي بالإنسان إلى أي شكل من أشكال العبودية.

هذه المستجدات العصرية تطرح سؤالا حاسما: هل يستمر المسلمون في تبني أحكام الآيات القرآنية التي تتحدث عن ملك اليمين باعتبار صلاحيتها لكل زمان ومكان أم يجب عليهم إعمال مبدأ القراءة التاريخية على هذه الآيات؟

الإجابة على هذا السؤال تتطلب رؤية شاملة واجتهادا كبيرا يخرج بالمدارس الفقهية من حالة الجمود التي كبلت العقل المسلم لمئات السنين، ذلك لأن غياب الاجتهاد الجديد سيؤديلاستمرار الحالة التي عبر عنها تنظيم “داعش” بعد إعلانه قيام الدولة الإسلامية في سوريا حيث أصدر منشوره الشهير حول سبي ومواقعة النساء المسترقات.

احتوى المنشور الموقع باسم “ديوان البحوث والإفتاء” التابع للدولة الإسلامية على إثنين وثلاثين سؤالا وجوابا، وعرَّف المنشور السبي بأنه “ما أخذه المسلمون من نساء أهل الحرب”.

كان السؤال الثالث في المنشور حول إباحة “سبي الكافرات” وتمت الإجابة عليه بأنه: “لا خلاف بين العلماء في جواز سبي الكافرات كفرا أصليا كالكتابيات والوثنيات، لكنهم اختلفوا في سبي المرتدة، فذهب الجمهور لعدم جوازه وذهب بعض أهل العلم لجواز سبي المرتدة، والراجح عندنا قول الجمهور، والله أعلم”.

واحتوى المنشور على سؤال آخر حول “جواز وطء السبية”، وكانت الإجابة: “يجوز وطء السبية، قال تعالى: (والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون) [المؤمنون(5-6)] ).

سؤال آخر تناوله المنشور وهو: “إذا اشترك اثنان أو أكثر في شراء سبية، فهل تحل لكل واحد منهم؟”، وأتت الإجابة: “لا يحل وطء السبية إلا لمن تملكها ملكا تاما، أما من كان ملكه لها منقوصا بشراكة فلا يحل له وطؤها حتى يشتري نصيب الآخرين فيها أو يتنازلون له هِبَةً”.

وعن شروط وطء السبية أو المسترقة من قبل مالكها ذكر المنشور أنه: “إذا كانت بكرا فله أن يطأها مباشرة، أما إذا كانت ثيبا فلا بد من استبراء رحمها”، أي الانتظار عليها حتى تحيض مرة واحدة على الأقل، وذلك للتأكد من أنها غير حامل.

لا شك أن منشور داعش المشار إليه أعلاه يستند إلى التراث الفقهي الإسلامي المُستمد بدوره من الآيات القرآنية التي تُبيَّن كيفية التعامل مع ملك اليمين، وفيه رأينا التنظيم يستشهد بآية قرآنية عند توضيحه لحكم “وطء السبية”.

بالطبع لا تقتصر الآيات القرآنية على تلك التي استشهد بها منشور “داعش” بل هناك العديد من الآيات: “والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم” النساء:24، وهي الآية التي يُفسرها القرطبي في “الجامع لأحكام القرآن” بقوله: “المراد بالمحصنات هنا “ذوات الأزواج خاصة” أي: هنّ محرمات إلا ما ملكت اليمين بالسبي من أرض الحرب، فإن تلك حلال للذي تقعُ في سهمه وإن كان لها زوج”.

وكذلك الآية “وان خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا” النساء:3، وهي الآية التي يُفسرها بن كثير بالقول: “فإن خشيتم من تعداد النساء ألا تعدلوا، فمن خاف من ذلك فليقتصر على واحدة، أو على الجواري السراري، فإنه لا يجب قسط بينهن، ولكن يُستحب، فمن فعل فحسن، ومن لا فلا حرج”.

وهناك أيضا الآية “واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا” النساء:36، وهي آية توصي المسلمين بالإحسان إلى مملوكي اليمين.

إذن، من الجلي أن الأحكام التي طبقها داعش إبان سيطرته على أجزاء كبيرة من سوريا والعراق وكذلك تصريحات رشدي حول مواقعة المسبية لم تأت من فراغ، بل هي تعكس آراء مدارس فقهية وتستند إلى نصوص قرآنية صريحة، وبالتالي فإن علاج هذا الأمر يجب أن يبدأ من خلال قراءة مختلفة للنصوص تقوم على تأويل يراعي قيم الدين ومقاصده الكبرى الهادفة للحفاظ على حرية وكرامة الإنسان.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى