نقد “العهد”.. لئلا يتحول لبنان دولة بوليسية* جنى الدهيبي
النشرة الدولية –
لا شكّ أنّ العهد الذي بدأ منذ انعقاد التسوية الرئاسية في العام 2016، نقل لبنان إلى ضفةٍ أخرى تحت مظلة الوصاية الإيرانية وبإدارة حزب الله. وهذا العهد، بشروطه ومعادلاته ومصالحه المتضاربة والمتناقضة والمعقدة في آنٍ معًا، لم يُكمل الصمود حتّى انتهاء ولايته لمداراة تقهقره وفساده المستشري في السلطة، وداخل أروقة حكومته ووزاراته. لكن، ما لم يكن متوقعًا، هو أن يتجاوز استفحال الفساد في الاقتصاد والكهرباء والبيئة والصّحة، ليطال اللبنانيين بحرياتهم، عبر ممارسات شائنة في القمع والاستبداد والملاحقات من بوابة أجهزة السلطة وقضائها.
وفيما يقف العهد على أبواب ذكراه “المجيدة” في 13 تشرين الأول، ثمّة جور أمنيّ وقضائي يناقض فحوى هذا التاريخ، ويعيدنا إلى بطش الوصاية السورية وغلوّها البائد في قمع حريات الناس وكمّ أفواهم. واليوم، أيضاً وبمناسبة هذه الذكرى “المجيدة”، التي تتزامن مع مرحلةٍ مريبة يرتمي فيها العهد بأحضان النظام السوري وأدواته وينضوي مستسلمًا لمشروع حلفائه في المنطقة، وهو الذي قاد “حرب التحرير” ضدّه في العام 1990، أصبح يمارس ما كان يدّعي محاربته: تسليط الأجهزة القضائية والأمنية على المواطنين والمواطنات ملاحقة إياهم على بسبب آرائهم وتعبيراتهم، ورفع الدعاوى على صحف ورؤساء تحرير وصحافيين من أجل مانشيت أو تحقيقٍ أو تقرير أو نقدٍ سياسيّ لم يرق للقائمين على هذا العهد. أمّا الحجّة، فهي جاهزة على الدوام، كما حال الدول العربية الديكتاتورية التي تقمع شعوبها بمقولة: نريد تنفيذ القانون!
ولأن الخوف والقلق على الحريات في لبنان، يوازي ما يستشعره اللبنانيون حيال اقتصادهم ومعيشتهم وأمنهم، توجهت “المدن” لعدد من القوى السياسية بغية استطلاع موقفهم من الممارسات القمعية التي باتت نهجًا صريحًا وفاضحًا يمارسه العهد “القويّ” من دون تردد.
الاشتراكي: العهد يضيق صدره
يعتبر مفوض الإعلام في الحزب التقدمي الاشتراكي رامي الريّس أنّ العهد ضاق صدره حيال تعبير المواطنين عن أوجاعهم وآراهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي. وفيما همّ المواطنين يكون في ملاحقة أسباب عيشهم، “تلاحقهم السلطة، بدل أن تكون الأمور باتجاه آخر، وأن تقوم الدولة بواجباتها بالتخفيف من معاناة أبنائها”.
ووفق الريّس، أنّ هناك حملة مركّزة من قبل العهد باتجاه قمع الحريات، والنيل جزائيًا من رؤساء تحرير صحف بسبب مانشيت ورأي سياسي معارض لهم، و”هذا مؤشر خطير على تراجع هامش الحريات في لبنان”.
وفي لبنان الذي يعاني من عثرات كثيرة في نظامه السياسي والطائفي، “لم يبق لأبنائه سوى مساحة حرية التعبير عن وجهة نظرهم، ومن واجبنا المحافظة عليها وحمايتها. بينما فكرة ملاحقتهم وقمعهم، هي فكرة خارج العصر والزمن”. فـ”هم يفاخرون ببطولاتهم في مواجهة الوصاية السورية، بينما أصبحوا قريبين ومماثلين لما كانت تقوم به سلطات الوصاية”. يقول الريس: “أخطر ما يمكن أن يتلاعب به العهد والقوى السياسية، هو موضوع الأجهزة الأمنية، وأن يتحول البلد إلى مجموعة جزر أمنية، وكلّ جهاز يتبع لمرجعية سياسية. كما أنّ تكريس الأجهزة الأمنية لأجندتهم السياسية مؤشر خطير جدًا”.
أمّا بالنسبة للقضاء، فـ “موقف الاشتراكي معروف، وسبق أن قدمنا مشروع قانون متكامل لتكريس استقلالية القضاء، حتى نحرر القضاة من التبعية للسلطة السياسية بالترقيات والترفيعات، بعد أن فضحنا بالأسماء والوثائق والتفاصيل حجم التدخل السياسي الذي كان يحصل في القضاء أثناء حادثة البساتين في الجبل”.
وعلى أبواب ذكرى 13 تشرين الأول، يدعو الريس التيارَ الوطني الحرّ أن يقرأ التاريخ جيدًا من جديد، ويستخلص العبر، لا سيما أنّ البلد يقوم على مجموعة توازنات سياسية، والمسّ فيها يؤدي إلى توتير الوضع الداخلي. وتاريخيًا في لبنان “كل من يقف ضدّ الحريات ويلجأ لقمعها بقوّة السلطة، تكون نهايته السقوط حتمًا”.
القوات اللبنانية: لا للدولة البوليسية
يرى مسؤول الإعلام والتواصل في حزب القوات اللبنانية شارل جبور، أنّ ما لم ينجح النظام السوري في فعله أثناء وصايته، لن ينجح أيّ نظام آخر بفعله، مهما استفحل في السلطة وكرّس أجهزتها لخدمته، لأنّ مسألة الحريات في لبنان، ليست مسألة شعار، وإنما هي نمط عيش لدى اللبنانيين، ومتوارثة وليست مستجدة، ودفع اللبنانيون ثمنها نضالًا تاريخيًا، منذ ما قبل الجمهورية اللبنانية الأولى: “مسألة الحريات لا يمكن المساس بها، لأنّها تعكس الجانب الاجتماعي والتنوعي والتعددي والطائفي في لبنان، وكلّ التركيبة اللبنانية، هي نتيجة الحرية القائمة فيه”.
لذلك، ينصح جبور العهد بالابتعاد عن الجانب القمعي والاستبدادي، لأنّ كلّ من يحاول المسّ بالحريات يشوّه صورته، ويضرب مسألة أساسية بالنسبة لتعايش اللبنانيين، ويخسر شعبيًا، ويكتب لمحاولاته الفشل. فـ”معركة الحريات هي دائمًا معركة رابحة، وكلّ طرف يحاربها ويسعى لقمع اللبنانيين هو حتمًا بالموقع الخاسر”. وما يحصل في العهد، يندرج في سياقين: إمّا محاولة فعلية لإنتاج نظام بوليسي، وإما محاولة تهويل من أجل ضبط سقف الرأي العام والاعتراض القائم. والنظام البوليسي في لبنان من المستحيل إنتاجه، وبالتالي هي محاولة لضبط انفعالات الرأي العام وقمع الحالة الاعتراضية السائدة في البلد.
أمّا محاولة إعادة انتاج نظام بوليسي، فــ”يعبّر عن مأزق سياسي ووطني وشعبي على هذا المستوى”. لذا، “نقول لرئيس الجمهورية، أن مسألة من هذا النوع تضرب عهده”. و”نحن كقوات لبنانية، لن نهادن أبدًا. وأيّ طرف سياسي، مهما علا شأنه، يسعى لضرب الحريات، سنكون في مواجهته سياسيًا وبالمواقف. ولن نسمح أن يتحول لبنان إلى دولة بوليسية وديكتاتورية، لأن قيمته بتنوعه وحريته وديموقراطيته، ولن نسمح بتغيير هوية لبنان السياسية والثقافية والحضارية والاجتماعية”.
وبمناسبة ذكرى 13 تشرين الأول، يدعو جبور التيار الوطني الحرّ أن يراجع تاريخه ويكون منسجمًا مع نفسه ويعود لتراثه في مواجهة آلة القمع السياسية، ويجب على كلّ طرف سياسي أن يكون منسجمًا مع نفسه، لأن مسألة الحريات يجب أن تكون من البديهيات اللبنانية ولا أن تكون موضع خلاف بين القوى الحاكمة في البلد.
بالنسبة للقوات اللبنانية، وفق جبور، كل قضية أو شكوى ضمن محكمة المطبوعات، لا ينم عن موقف سياسي. يقول: “نحن لا نمانع أن يتهجم أحد على القوات اللبنانية، وبأي تعليق سياسي ضد خيارتنا. ولكن، أن يكون الاتهام فيه تطاول وتجنٍ، يحق لنا اللجوء إلى محكمة المطبوعات وإلا نكون قد ثبتنا التهمة والافتراءات على أنفسنا، لا سيما أننا فريق سياسي تعرضنا من التسعينات حتى العام 2005، لمحاولة تشويه صورة عن سابق تصور وتصميم،
ولا يمكن أن نغض النظر عن اتهامات خطيرة ومغرضة تمسّ بسمعتنا وأخلاقياتنا خارج الإطار السياسي”.
الكتائب: كم من الجرائم ترتكب باسمك أيتها المسيحية
من جهته، يشير نائب رئيس حزب الكتائب اللبنانية الدكتور سليم الصايغ، أنّ حزبه تعرض مرارًا لقمع الحريات الذي مارسه العهد ضدهم، عبر الضغط على الملفات الكبيرة التي حملها، ومن خلال التدخل بالقضاء، لـ”عدم البتّ بملفات مهمة حملناها، وأهمها ملف برج حمود، وبعدها ملاحقة شبابنا على خلفية بوست أو تغريدة”. فـ”كل يوم، ينتهك العهد كرامتنا وكرامة شعبنا بهذه الممارسات القمعية تحت شعار المحافظة على الأمن والسلم الأهلي، وهي الحجة نفسها لجميع الأنظمة الديكتاتورية الحاكمة في العالم”.
وهذه المعارضة الشعبية التي تتعرض للتنكيل بأشبع الصور، وللتجريح من قبل هذه السلطة التي تمارس عليها الترهيب الفكري والقضائي والبوليسي، “أصبحت معارضة متأصلة في قلب الشعب اللبناني، وهي تتوسع، بعد أن استشعر اللبنانيون ممارسة القمع من قبل منظومة العهد، والتي تحولت من منظومة سارقة للدولة، إلى منظومة تنظّم الظلم والاضطهاد والحكم بالاستبداد والتسلّط”، يقول الصايغ: “المواجهة اليوم موجودة، وهي ليست مواجهة كلامية، لأننا حزب سياسي، نقود مواجهة مفتوحة، من دون أيّ سقف، بعد أن سقطت توازات 8 و14 آذار، وبعد أن أصبح هناك انتهاك يومي للقانون واستعمال سلطة الأمر الواقع لفرض الهيمنة ولأسباب حزبية وشخصية واضحة الأهداف المعالم”.
يأسف الصايغ أن يكون هناك سعي واضح لإبقاء البلد تحت سيطرة حزب الله، “منذ أن أتوا برئيس جمهورية من محورهم، وسيطروا على مجلس النواب والهيئة العامة، وفصّلوا حكومة ينعدم فيها التوازن بين القوى السياسية الحاضرة في البلد”. لكن هذه المنظومة، “التي كان تفكر أن تنتج سلطة شرعية، انفجرت على ذاتها. وبعد استفحالها في السلطة لاستكمال وضع اليد على البلد، بدأت تلجأ للقوّة القاهرة واستسهال قمع الحريات”. أمّا المواجهة، فـ “يجب أن تكون بالمؤسسات والشارع والقطاعات وعبر الإعلام، وحيث يكون لهم موقف يجب أن يكون لنا مواقف، ولا هوادة بهذه الموضوع، ولا أنصاف حلول حيال هذا الأداء السيء والقمعي”.
يحمّل الصايغ التيار الوطني الحرّ مسؤولية ما يحصل في البلد، بعد أن “أحبّ” أن يلعب دور الشريك المنفذ والوفي لأجندة حزب الله. وجبران باسيل، “يتحمل سياسيًا مسؤولية ما يحصل في البلد، بعد أن وضع نفسه في موقع الشريك المتذاكي على اللاعبين الأقوياء، وهو يتحمل مسؤولية مباشرة في ضرب العهد ورئاسة الجمهورية”. فـ “باسيل قبِل أن يكون أداة طيعة بيد حزب الله وعليه هو أن يتحمل المسؤولية، وهذا الغطاء قد يؤدي إلى حالة أكبر من الانهيار الوطني”.
أكثر ما يثير غضب الكتائب اللبنانية، هو استغلال التيار لخطاب “استعادة حقوق المسيحيين” وتكريسه حتّى في أداوته القمعية للبنانيين. فـ”كم من الجرائم ترتكب باسمك أيتها المسيحية، وهو، أيّ التيار، يدمر المسيحيين باسم المسيحية وحقوقهم، ويدخلهم بمعارك وهمية وفي طواحين هواء مع شركائهم اللبنانيين، بينما المردود يكون بتقهقهر للوطن والمسيحيين معًا”.
وعن ذكرى 13 تشرين، يعتبر الصايغ أنّه لو كان للتيار كرامة وطنية ومسيحية، “كان سأل في هذه الذكرى عن جثث شهداء الجيش والرهبان الذين قتلوا على يد الجيش السوري”. فـ”هذه التسوية الرئاسية كانت 13 تشرين آخر، واستبدلت وصاية بأخرى وانكسار بانكسار آخر”.
العزم: حرية الرأي مقدّسة
على المقلب السّني، يعتبر مستشار رئيس الحكومة الأسبق نجيب ميقاتي الدكتور خلدون الشريف، أن حرية الرأي مقدسة، وهي مسألة وجودية بالنسبة للبنانيين. فـ”من دون أدنى شكّ هناك فرق بين حرية التعبير عن الرأي والافتراء والتعدي على كرامات الآخرين، لذلك وجد القضاء للتمييز بحرية التعبير، وبين ضرورة عدم التعرض بما هو ليس قائمًا”، يقول: “لكنّ القضاء أناط مسألة حرية التعبير بمحكمة المطبوعات، ومحاولة الالتفاف هو سوء استغلال للسلطة. إذ يجب التمييز تمامًا بما يفعله العهد، عبر الإلتواء واللجوء إلى المحاكم الجزائية بدل محكمة المطبوعات”.
يرى الشريف أنّ ما قام به الوجود السوري بعزّ عنفوانه، لم يصل إلى ما وصلنا إليه اليوم من محاولات للجم الحريات وقمعها، وخاصة من جهة من سبق أن تعرضوا للقمع. أمّا حين استلموا السلطة وانخرطوا بها، “بدأوا يمارسون القمع بأعلى درجاته”. والتيار الوطني الحرّ الذي يدّعي أنّه تعرض للقمع أكثر من أيّ تيار سياسي آخر في لبنان، وقد يكون ذلك صحيحًا، “يواجه معارضيه بالقمع، ويكرّس أجهزة الدولة خدمةً له، من أجل استدعاء ناشطين، أو أو وسائل الإعلام وصحافيين بطرق ملتوية ومشبوهة تطرح كثيرًا من علامات الاستفهام”.
لكن في لبنان، “لا يمكن أن تدوم السياسة القمعية، والردّ عليها يكون في الانتخابات النيابية المقبلة”.
المستقبل: ضدّ ملاحقات القمع واسكات الناس
يؤكد عضو المكتب السياسي في تيار المستقبل المحامي فادي سعد، أنّ حرية التعبير المصانة في الدستور اللبناني، يدعمها “المستقبل” ورئيس الحكومة سعد الحريري إلى أبعد حدّ، و”نحن ضدّ أيّ ملاحقات تعسفية لصحافيين وأصحاب رأي عام. وهم يعبرون عن رأيهم ضمن الحدود المسموح بها التي لا تتخطى الكرامات الشخصية. وفي أكثر من مناسبة ذكّر الرئيس الحريري بالمسألة، وأكد أنه لا يستطيع حبس الناس وأن يلاحقهم على آرائهم ومواقفهم”.
لكن، ألا يتحمل الحريري مسؤولية قمع الحريات وهو على رأس السلطة التنفيذية؟ يجيب سعد: “نحن في السلطة ولسنا كلّ السلطة، ولبنان لا يحكم من طرف، والحكومة هي حكومة ائتلافية جامعة لمختلف القوى. وأيّ طرف سياسي يلاحق المواطنين ويقمع حرياتهم لا نقوم بتغطيته، وإنما يتحمل كلّ طرف مسؤولية أفعاله تجاه اسكات اللبنانيين ومحاولات إخضاعهم”.
يتناول سعد الشقّ القانوني، ويشير أنّ لبنان سابقًا لم يكن لديه قانون للانترنت. كل ملاحقة على مواقع التواصل الاجتماعي، كان يجري تحويلها إلى محكمة المطبوعات قياسًا. وبالتالي، “كانوا يعتبرون الفايسبوك كصحيفة”. أمّا في العام 2018، فـ “قد صدر قانون ينظم الانترنت، واعتبر أن الجرم الصادر عن الانترنت، هو قدح وذم، ويكون جرمًا جزائيًا، يُلاحق به صاحبه”. لكنّ ملاحقة الناس بجرم القدح والذمّ، “يكون التوقيف فيه ممنوعًا، وكلّ ما نشهده من حالة حبس وتوقيف، هو تهويل وتعسّف في استعمال السلطة”.
يفرّق سعد بين التعدي على كرامات الآخرين تحت مظلة حرية التعبير، وبين النقد والرأي السياسي، الذي هو حقّ مطلق ومشروع لجميع اللبنانيين. يقول: “أي طرف يلاحق المواطنين على رأيهم السياسي، يكون ضعيف سياسيًا وتنظيميًا وحضوريًا، ونحن نقف ضدّه حتمًا في هذا الشأن”.
نقلا عن موقع المدن