السينما المصرية والعدو الأول* د. نجاة السعيد

النشرة الدولية –

لا شك أن المفهوم التقليدي للحروب قد اختلف، من حروب عسكرية بالاحتلال العسكري إلى حروب اقتصادية لتدمير الاقتصاد القومي، ليتحول أخيرا إلى مفهوم جديد يسمى بالحروب الفكرية أو “حروب الجيل الرابع”.

وهنا تختلف طبيعة الأسلحة المستخدمة لطبيعة الحروب الفكرية أو حروب “إفشال الدولة” وتستخدم هذه الآليات أفكارا وشعارات رنانة كالحرية والعدالة والديمقراطية، كما أن هذه الحروب تستغل ما تعاني منه الشعوب من فقر وبطالة وغياب للحريات لتمرير أجندتها لتفرغ الفرد من الانتماء للهوية الوطنية بحيث يصبح المحتل في عقيدته هي المؤسسات الوطنية وعلى رأسها الجيش الذي يجب هدمه. وهذا ما تم فعله في أحداث ما سميت بالربيع العربي من خلال هتافات مثل: “يسقط العسكر ويسقط الجيش”.

وفي خضم هذه الحروب الفكرية المدنية الجديدة ظهر الفيلم المصري الحربي العسكري، “الممر”، الذي تم عرضه في دور السينما المصرية وفي دول عربية عدة هذا العام. حظي الفيلم بإنتاج ضخم مدعوم من القوات المسلحة المصرية تجاوزت ميزانية الفيلم 100 مليون جنيه وهو الرقم الأكبر في السينما المصرية، كما عرض الفيلم على قنوات مصرية في 6 و10 و12 أكتوبر بمناسبة الاحتفال بالذكرى الـ46 لنصر أكتوبر. فالفيلم تناول المرحلة الزمنية بدء من حرب 1967 وحتى الأوقات الأولى من حرب الاستنزاف بين مصر وإسرائيل.

لقد حول الفيلم أحداث نكسة 1967 من هزيمة إلى نصر ظهر بوضوح في آخر الفيلم من خلال المواجهة بين المقدم نور (أحمد عز) ودافيد أليعازر (إياد نصار) والحوار المفتعل النمطي الذي دار بينهما، الذي تضمن عبارات عن أرض الميعاد التي ذكرت في التوراة، وهو لا يختلف في مضمونه عن أفلام ناديا الجندي مثل “مهمة في تل أبيب” وأفلام أخرى مثل “الرصاصة لا تزال في جيبي” و”إعدام ميت”، ومشهد تدمير أكبر معسكر احتياط للجيش الإسرائيلي في سيناء والتي تذكرنا بأفلام سوبرمان بانتصار شخص أو أربعة أشخاص على موقع معد من الدبابات والأسلحة دون مواجهة تذكر من الجانب الإسرائيلي، مما يعطي انطباعا ساذجا وضعيفا لا تقنع المشاهد البالغ.

لكن بعيدا عن النقد الفني للفيلم والحبكة الدرامية المبتورة وبعض الأحداث والشخصيات المحشوة في الفيلم مثل الصحفي إحسان (أحمد رزق) وهي شخصية هزلية ليست لها أي إضافة عسكرية أو مخابراتية أو حتى أبعاد درامية، وأيضا قصة الحب من أول نظرة تحت نيران الحرب التي دارت بين العريف هلال (محمد فراج) وفرحة (أسماء أبو اليزيد) والتي زادت من عدم ترابط الأحداث؛ بعيدا عن كل هذا، ما هي الإضافة التي قدمها المخرج شريف عرفة والذي عاد بنا بالأحداث إلى ما قبل 50 عاما للوراء وترك أحداث ساخنة مثل “حروب الجيل الرابع” والطابور الخامس التي مازالت مصر تعاني منها إلى اليوم؟ فهل مازالت إسرائيل هي العدو الأول لمصر، بالرغم من معاهدة السلام بينهما منذ عام 1979؟ أليست أفلام مثل “الممر”، خاصة بعد مشاهد الإذلال والضرب والقتل التي قام بها دافيد أليعازر، الشخصية الشريرة الحاقدة، (إياد نصار) ضد الضابط المصري الأسير محمود (أحمد فلوكس) والأسرى الآخرين ستصور للجمهور أن الدولة بإبرامها اتفاقية سلام مع إسرائيل تقوم بعمل خائن ضد الوطن والشعب؟

إن أهم ما تقوم به السينما هو نشر الوعي الثقافي والاجتماعي والسياسي للرأي العام، حيث يشير الناقد الفرنسي الكبير “كريستان ريمو” أن الهدف الأساسي للسينما هو نشر أيديولوجية معينة تابعة للنظام السياسي.

فالسينما هي وسيلة من وسائل الاتصال الجماهيرية، وتهدف أيضا إلى إيصال فكرة أو نشر أيديولوجية ما والدفاع عنها كما تسعى أيضا إلى كسب الرأي العام في قضية ما وذلك من خلال بث أفلام ذات طابع سياسي الذي يتأثر بها الجمهور ويعبئها لديه لتصبح فكرته ومبتغاه.

ومن هنا نتساءل ما الذي قدمه فيلم “الممر” ويعبر فيه عن الأزمات الحالية التي تمر بها مصر والمنطقة؟ إن أهمية السينما المصرية تكمن أنها مؤثرة، ليس فقط في المجتمع المصري، بل على كل الدول العربية كون مصر الأكثر خبرة عربيا في مجال صناعة السينما والأفلام المصرية تعرض في أغلب دور السينما العربية والمحطات التلفزيونية العربية.

حتى لو افترضنا أن المقصود من الفيلم تعريف الأجيال الجديدة بهزيمة حربية عانت منها مصر والمنطقة للاستفادة من أخطاء الماضي العسكرية لمستقبل أفضل وبناء جيوش أقوى لرفع الحس الوطني لدى الشباب، كان بالإمكان عرض فيلم وثائقي يلتزم بالوقائع التاريخية كما هي، من دون عناصر السينما من إثارة وتشويق ومبالغة في الأحداث الدرامية لجذب الجمهور.

وهذا سيكون وقعه أفضل، لأن إثارة المشاعر لحرب حدثت قبل 50 عاما طويت صفحتها باتفاقية سلام عمل غير مجدٍ، فالأوضاع الراهنة تستوجب من السينما المصرية أن تنفذ عمل يتناول ما تعاني منه مصر والمنطقة حاليا وتقريب التفكير السياسي بين المحكومين والحكام لمواجهة مشروع “إفشال الدول” والعدو الخفي الذي يستخدم القوة الناعمة والشعارات البراقة لتفكيك الجيوش وتحطيم الدولة الوطنية.

وبالرغم من أن إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب تختلف عن إدارة أوباما السابقة لجهة دعم جماعة الإخوان المسلمين، وتعمل إدارة ترامب على ضمها للائحة المنظمات الإرهابية، إلا أن غالبية أعضاء الحزب الديمقراطي والجماعات اليسارية وجماعات الضغط التي تمولها جماعة الإخوان المسلمين في الولايات المتحدة تقوم بعرقلة هذا الأمر.

فقد كانت هناك علاقة بين الإخوان المسلمين وإدارة أوباما، وهي علاقة مازالت بوادرها موجودة إلى الآن، وأهم ما ركزت عليه جماعة الإخوان لتوثيق هذه العلاقة هو ضمان أمن إسرائيل. كما وطد هذه العلاقة مجلس العلاقات الإسلامية الأميركية “كير”، المخترق من الإخوان المسلمين، ومازال هذا المجلس يعمل على ترسيخ علاقته مع جماعات غير متوافقة مع الإدارة الأميركية الحالية.

ومن بين الشخصيات التي توصف بأنها قريبة من الإخوان وعملوا كمستشارين في إدارة أوباما: محمد الإبياري، مصري، مستشار أعلى بإدارة الأمن القومي الأمريكي؛ عارف علي خان، باكستاني، مساعد سكرتارية في مكتب تطوير السياسات بالأمن القومي؛ رشاد حسين، هندي، المفوض الخاص عن إدارة أوباما لمنظمة المؤتمر الإسلامي؛ سلام المراياتي، عراقي، مستشار أوباما، المؤسس والمدير التنفيذي لمجلس الشؤون العامة للمسلمين؛ الشيخ محمد ماجد، سوداني، مستشار الشريعة لأوباما ورئيس المركز الإسلامي الاجتماعي بشمال أميركا (إسنا).

ومن غير المستغرب بعد انتهاء ولاية ترامب أن يعود هؤلاء أو ما يشابه توجهاتهم للواجهة في حالة انتخاب رئيس من الحزب الديمقراطي أو رئيس مؤمن باتفاق مصالح بلاده معهم.

إن أدهى ما تقوم به جماعة الإخوان المسلمين ومن يدعمها هو تمثيلها على أنها تمثل الإسلام المعتدل وتصوير مطالبهم على أنها لا تختلف عن غالبية الشعب من ديمقراطية وحرية وعدالة اجتماعية ولكي يقتنع بهم العامة يتم ربطهم بحركات يسارية وليبرالية، وهذا ما قام به الدكتور محمد البرادعي عندما عاد للقاهرة في فبراير 2010 بربط شبكة التيار الإسلامي بشبكة التيار الليبرالي الحر.

لذلك، نجد أن مطالب جماعة الإخوان المسلمين لا تختلف عن حركة 6 إبريل اليسارية والتي شملت شباب مثل أحمد ماهر وإسراء عبدالفتاح وأحمد صلاح الدين وآخرين، وهي مطالب مشروعة في ظاهرها تمثل غالبية الشعب المصري.

كما نجد أن حركات الإسلام السياسي واليساري كلها تسير على نفس الاتجاه، فهي تتهم النظام الحاكم بالتابع والعميل لأميركا وإسرائيل، لكنها في الخفاء لها علاقات وطيدة مع جماعات وأحزاب في أميركا وأوروبا. فقد تم تدريب شبكة التيار الليبرالي من قيادات حركة 6 إبريل وحركة كفاية والاشتراكيين ونشطاء مركز ابن خلدون مع بعض شباب الأحزاب السياسية منذ العام 2008 في نيويورك ثم مكسيكو سيتي ولندن وفي بعض دول أميركا اللاتينية وحتى في تركيا، ومن ثم عادوا إلى مصر مدججين بجيوش من المنظمات الحقوقية.

واستمرت هذه العلاقة حتى بعد أحداث 25 يناير، وهو ما كشفت عنه مقالة واشنطن بوست في عدد أول مارس 2011 تحت عنوان: “ثائر مصري يطلب دعم أوباما”.

فكل هذه المخططات تحصل منذ 2006، وتحديدا في العاصمة القطرية الدوحة في “منتدى المستقبل” وبحضور الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون، وكان من أهم توصيات المنتدى مشروعين: الأول هو مشروع “النهضة” ويديره القطري الدكتور جاسم سلطان وهو أكاديمي منتمي لحركة الإخوان المسلمين. أما الثاني هو “أكاديمية التغيير” ومؤسسها هشام مرسي، زوج ابنة الشيخ يوسف القرضاوي، مفتي جماعة الإخوان المسلمين، الذي تربطه علاقة وطيدة بمؤسس مشروع النهضة.

فهذان المشروعان يسعيان إلى تفتيت ثوابت الأنظمة العربية بهجومها على الفئة الحاكمة مستغلة امتعاض الشعوب من بعض الإشكاليات الاقتصادية وغياب بعض الحريات لهدم مؤسسات الدولة الوطنية وخاصة الجيش. فما تقوم به “أكاديمية التغيير” هو تدريب كوادر شبابية على استعمال الإعلام الجديد من مواقع التواصل الاجتماعي ومواقع اليوتيوب للدعاية بانتهاكات النظام أمام الرأي العام الدولي.

ومن التكتيكات أيضا التدرج السريع في رفع سقف المطالب وتنفيذ خطوات العصيان المدني وتعلم وسائل التصدي لقوات الأمن من خلال تصوير فيديوهات ورفعها على شبكة الإنترنت أو أحيانا فبركة هذه الفيديوهات لتأليب الشعب والرأي العام ضد النظام الحاكم كما حدث مؤخرا في مصر.

كما أن من ضمن التكتيكات هو تضخيم حدث معين ليتم تدويله مثل الاستثمار في قضية مقتل الشاب خالد سعيد إلى الدرجة التي صنعت صورة كبيرة لهذا الشاب وضعت على صندوق ضوئي كبير داخل شاحنة طافت الشوارع في نيويورك وواشنطن.

ويُتهم مؤسس صفحة “كلنا خالد سعيد” على شبكة التواصل الاجتماعي فيسبوك، عبدالرحمن منصور، بأنه مقرب من الإخوان المسلمين. وقد كشف قيادي الجماعة عصام العريان، أثناء استضافته في إحدى القنوات بعد تنحي مبارك عن الحكم، أن المخطط كان بابتداء الثورة المصرية في يوم 25 يناير 2011 من خلال صفحة “كلنا خالد سعيد”.

لقد نجى الله مصر من هذا الدمار بعد 25 يناير بثورة 30 يونيو والتي دعمها الجيش المصري. فقد وصفت صحيفة “أبريمنت إي فاكت” الروسية، التظاهرات التي اجتاحت مصر بأنها الأكبر في تاريخ الإنسانية وأن العالم ذهل من الحشود التي انطلقت في كل الميادين مشيرة أن العالم يصفها بأم الثورات. أما مجلة “فورين بوليسي” الأميركية فقال كبير محرريها ديفيد كينير: إن الجيش المصري قد استعاد شعبيته بين المتظاهرين بعد انهيار شعبية الإخوان. وأضاف كينير أن صيحات الفرح تعالت عندما حلقت طائرات الجيش فوق ميدان التحرير.

وبعد كل هذه الأحداث الخطيرة تفاجئنا السينما المصرية بإنتاج ضخم لفيلم نمطي تقليدي أحداثه قديمة لا يختلف عن أفلام السبعينيات والثمانينيات. لا يقدم أي جديد يذكر للدولة المصرية أو الشعب المصري أو للمنطقة بأجمعها.

فالفيلم السينمائي ليس إنتاجا استهلاكيا بل مهمته تقديم خدمات سينمائية التي توضع وفق الأهداف والتوجهات السياسية والاقتصادية والثقافية للدولة. كما يجب التنويه أن مصر بعد أحداث 25 يناير 2011 ليست مصر قبل تلك الأحداث، فعدو مصر الأول ليس هو عدو الستينيات والسبعينيات.

الآن يوجد عدو أخطر وخفي من حروب فكرية ومدنية يتم تنفيذها من خلال عملاء وطابور خامس لن تستطيع الدولة بمفردها القضاء عليه، بل تحتاج إلى شعب واع يقف جنبا إلى جنب مع الدولة، وهذا ما يجب على السينما أن تقوم به من لعب دور كبير في توعية الجمهور، للحفاظ على مؤسسات الدولة وخاصة جيشها.

عن موقع الحرة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button