جورج مرعب يسرّح كلماته في متاهات لاجدوى المعنى… ينتقد الجيل الديجيتالي عبر كتابات غير مقروءة عصية الفهم
النشرة الدولية –
يستكمل التشكيلي اللبناني جورج مرعب في معرضه الأخير “كتابات إضافية” ما بدأه في العام 2016، حين أطلق معرضه الأول تحت عنوان “كتابات”، ولعل ما قاله حول معرضه السابق يتوافق بشكل كبير مع ما عرضه، مؤخرا “أصبح لكل واحد منا لغته الخاصة غير المقروءة بالنسبة للآخر، من هذه الأفكار انطلقت في تنفيذ هذه الأعمال الفنية.. فالموضوع الذي أعالجه مُتشعّب ويحتاج أكثر من معرض واحد لسبر أغواره”، بحسب تقرير نُشر في موقع “العرب” أعدته الزميلة ميموزا العراوي.
وما يلفت في معرضه الجديد الذي أقيم على “صالة مارك هاشم” البيروتية، هو أنه على الرغم من استمراره في استخدام فن الكتابة غير المقروءة، أصبح نصه البصري بشكل عام أكثر عصبية وأكثر تفلتا من ذي قبل.
كما أدخل مرعب إلى نصه عنصري التوازن وقابلية الخط في أن يكون هو حاضرا مع انعكاس له في مرآة تواجهه مباشرة. ولكن تستحيل معرفة أي تشكيل بينهما هو الأصلي وأيهما هو الانعكاس.
لا ينفع الإنكار أمام ما يقدّمه مرعب في لوحاته بأن المعنى لم يكن يوما أقل شعبية ممّا هو عليه الآن وعلى جميع الأصعدة
الاثنان يتدفقان كذبذبات إلكترونية عالية النبرة أهم خصائصها أنها تدلّ على نفس درجة القوة والنزق الداخلي الذي يحرّك يد الفنان على القماشة. قماشة تلقت كتاباته المُبهمة عن قصد كما تتلقّى أوراق التخطيط الطبية الغرافيكية خط الحياة ونبض القلب، حيث تلعب تراتبية اللحظات والتقطّع والهبوط وتصاعد الوتيرة دورا مصيريا.
كلمات متقطعة ومتواصلة ومتداخلة بفنية يغلب عليها التشويش و”الثرثرة” والحدة، وخاصة من خلال الخطوط التي تميل دون أن تتبنى اللين كمسار بصري ملازم لها.
مسار يريد أن يقدّم ذاته دون بداية أو نهاية محددة عبر تشكل عصبي يحيلنا إلى القول الشهير للمنظّر الأميركي ماك كوهين، وهو “الوسيط هو الرسالة”، أي أن القناة (الكتابات) التي تقدّم من خلالها الرسالة هي أكثر
أهمية من مضمونها (معنى الكلمات المفقود). وفي ذلك يدفع مرعب فكرته التي تناولها في معرضه السابق إلى مرحلة أكثر بعدا.
حول ما قدّمه سابقا، يقول جورج مرعب “معرضي يتحدّث عن لغة القرية الواحدة (في إشارة إلى العولمة). أما اليوم، وعلى الرغم من كثرة أساليب التعبير المختلفة وأقصد بشكل خاص اللغة الديجيتالية التي تقوّض شكل الكلمات في اللغات التقليدية والتي يتبناها بشكل خاص أبناء الجيل الديجيتالي، تبقى لغة التواصل وفهم الآخر أقل فأقل وضوحا بالنسبة لشريحة كبيرة من الإنسانية”.
ويسترسل التشكيلي اللبناني “وصلنا إلى زمن، أصبح فيه لكل واحد منا لغته الخاصة غير المقروءة بالنسبة للآخر، من هذه الأفكار انطلقت في تنفيذ هذه الأعمال الفنية”.
أما في معرضه الأخير، فالفنان يصل إلى مستوى جديد، وهو العبثية. العبثية ليس فحسب في نعي ما قد تقدّمه هذه الكلمات لمجموعات متشرذمة من البشر، بل أيضا في استحالة أن نتصرّف على أساس ما أدركناه من معان.
لن تكون لنا ردة فعل مناسبة تهدف إلى تغيير واقعنا المليء بالمآسي المتضاعفة وفي كل بقاع الأرض وإن بدرجات متفاوتة. نحن نعلم بأمر هذه الحادثة أو فصول تلك الحرب، ولكننا لم نعد مهتمين بما تعنيه لناحية وجوب وإمكانية أن نكون ناشطين فعليا في تقديم بدائل أو الإقدام على ترميم أو تصويب ما يحدث.
الأمر يشبه هيئة إنسان أمام وجبة هائلة من الـ”فاست فود” يلتهمها بسرعة. لا تشبعه ولا تمده بفوائد غذائية بقدر ما تعطيه شعورا بالتهالك والخمول.
ويأخذنا هذا إلى ما قاله يوما المفكر الفرنسي جان بودريارد “نحن نعيش في عالم تكثر فيه الكلمات ويغيب المعنى”. كما لا ينفع إنكارنا أمام ما يقدّمه لنا مرعب بأن “المعنى” لم يكن يوما أقل “شعبية” ممّا هو عليه الآن وعلى جميع الأصعدة.
ويلعب غياب المساحة الفارغة في معظم اللوحات دورا مهما في الإشارة إلى فكرة الاكتظاظ وموت الاقتضاب المُكثف للمعنى عبر تلاشي النقطة أو الفاصلة في كتاباته المُرتجة.
توجد في معرض “كتابات إضافية” لجورج مرعب العديد من اللوحات المنفصلة والمجاورة لبعضها البعض. تشترك في الألوان والأشكال. ولا تقدّم إحداها أي جديد عمّا سبقها. هي أجزاء من مشهد عام قد يحلو له أن يسرد “خبرا” منفصلا أو مستكملا لخبر سابق ما، ولكن لا يستطيع. فالتشابه والتكرار يعمقان من لاأهمية المعنى.
وحتى في لوحاته الأخرى تبدو كتاباته أشكالا متكررة لا تنتمي إلى مشهد عام، إذ هي المشهد. مشهد اختناق المعنى. لذلك يجد المُشاهد ذاته حائرا فمنحازا إلى تلقّف الوتيرة البصرية فقط و”الاستماع” إلى إيقاعها على قماش اللوحات كمن يستمع إلى وقع حوافر أحصنة هائجة على الأرض، كل ما تقوم به هو مجرد المرور.
وجورج مرعب من مواليد لبنان 1960، حصل على شهادة الماجيستير في فن الرسم من الجامعة اللبنانية في بيروت، وبعد التخرج غادر إلى إيطاليا، حيث تلقى تعليمه في فن ترميم المعالم التاريخية والجداريات، ومنذ سنة 1992
أقام معارض فردية عديدة في أوروبا إضافة إلى دبي، وسوريا، وبلجيكا، والبحرين، ومن ضمن تلك المعارض نذكر معرض “أضرار جانبية” سنة 2012، ومعرض “كتابات” سنة 2016، كما شارك في معارض عالمية بفرنسا وسويسرا والولايات المتحدة ومصر.