مارد الغيبوبة ينهض: في أن يكون الماضي انتفاضة الحاضر* ميموزا العراوي

النشرة الدولية –

“لم نكن يوما مؤرخين، كنا دوما أقرب إلى الشعراء، أما مشاعرنا فهي ربما ليست إلاّ تعبيرا عن شعرية ضائعة”. هكذا كتب المفكر الفرنسي غاستون باشلار حول شعرية الأمكنة. وهذا تماما ما شعرت به عندما دخلت إلى وسط بيروت ليلا في أول أيام المظاهرات اللبنانية، وكأن لأول مرة بعد انتهاء الحرب اللبنانية.

أخذني حضوري اليومي إلى الوسط التجاري، إلى زيارتي الأولى إليها في بداية التسعينات من القرن الفائت في سيارة والدي مع باقي أفراد العائلة. كانت قد فتحت الساحات ليلا نهارا لكي “يتفرّج” عليها اللبنانيون في زيارات سياحية عنوانها الخراب الذي صنعوه من أجمل مدن العالم وأكثرها حيوية وحميمية على السواء: بيروت.

زيارات شعائرية نظر فيها اللبناني النظرة الأخيرة في عين جرائمه تجاه الآخر قبل أن يسدل المجتمع الدولي “لصالح الكل” ستار الخفاء الأبيض ككفن سميك لاجما الصوت والمشهد، ومُغرقا المجتمع اللبناني المُتشرذم في غيبوبة مُتقنة.

جاءت الكتابات بشعريتها الفجة، والتي اجتاحت الجدران أصدق من الجدران الجديدة ذاتها. وقدّمت للمُشاهد كيف يمكن أن يكون الفن “عنفا” بصيغته الحاضرة

كان الوقت مساء. وكانت مصابيح إنارة بيضاء تضيء هياكل الأبنية المنخورة بالرصاصة التي تشبه صروحا باروكية الطراز تعتليها أرواح شياطين الحرب اللبنانية، كما اعتلت تماثيل “الغارغوي” المخيفة كنيسة نوترودام الفرنسية، خاصة حين وبعد الحريق الذي أجمع الكثيرون على أنه مفتعل.

كما حضرت كتابات باللون الأحمر المُرمّد واللون الأسود لشعارات حزبية كريهة ومليئة بالحقد. بعضها واضح وبعضها الآخر غطته آثار الحرائق.

أما مؤخرا فدخولي إلى الوسط كان أشبه بالدخول إلى كتاب قديم تنبعث منه رائحة القِدم: العفن وسخونة غريبة لا أعرف تصنيف ماهيتها. ربما هو رائحة مرور الزمن مُكدّسا في مسامات الأوراق. وحين أقول “رائحة”، فلا أعني بالمعنى المجازي، بل في المعنى الحقيقي.

وقد تكون هذه الرائحة سببها الرطوبة التي اختلطت بروائح الناس والأوراق الممزقة والمتفحّمة، وربما بما تركت الأمطار من أثر في الأرض والنبات والأشجار الموجودة. كل هذا الجو يحيل بناره ودخانه ومائه وترابه إلى بعض مشاهد أفلام المخرج الروسي أندري تاركوفسكي، مخرج “اللامنطق” والحسية المجبولة بالذاكرة والنسيان.

والغريب في هذه التجربة الحسية هو أنني تذكرت حلما راودني منذ سنين عديدة وتكرّر دون أن أتذكر منه سوى شذرات: أنا ووالدتي في سوق بيروت العتيقة. هي تمسك بيدي وأنا أتفرج بداية على روائع القماش الملون والمعروض على أبواب الدكاكين، ونهاية على معروضات صيغة الذهب والفضة. اسم هذه النواحي من الوسط التجاري، حسب قول الوالدة عندما أطلعتها على الحلم: “سوق الصاغة” و”سوق القماش”.

قالت لي إنها كانت تصطحبني إلى هناك كثيرا عندما كنت صغيرة. وفي الحلم أيضا أضيع في الأسواق لأختبئ في مداخل بنايات مهدمة أرتجف فيها خوفا وأنا أناديها بأعلى صوتي. كنت أستيقظ من الحلم عندئذ دائما.

أهمية هذا الحلم الآن، هو أنه جعلني أنظر إلى الواقع من خلاله. أتساءل اليوم كيف يمكن للزمن أن يُسرد ولا أقول يتكثّف في لحظة واحدة، لحظة اقترابي من أحد مداخل المحال المُحطمة حديثا زجاجها وحيث اصطبغت جدرانها بكلمات الثورة النابية منها وغير النابية، وأهمها “فليسقط حكم المصرف”؟

المرئي هنا لم يعد ما أراه مباشرة، بل هو تاريخ طويل امتد منذ الحرب إلى الآن. وكأن الخرائب تستردّ أحقيتها بالحضور مجددا لأن “الإعمار” كان “تجميليا” وليس تصحيحيا، فوجب تصديع مكانته وما يمثّله من كمّ لأرواح الموتى التي لم ولن تستكين لا تحت محل لبيع الشوكولا أو خلف محال لبيع الهواتف المحمولة أو غيرها قبل أن تنتزع حقها في أن ترحل بسلام.

حضرت كتابات باللون الأحمر المُرمّد واللون الأسود لشعارات حزبية كريهة ومليئة بالحقد. بعضها واضح وبعضها الآخر غطته آثار الحرائق

سلام حقيقي لم يعرفه اللبنانيون يوما واحدا قبل اندلاع الثورة السلمية التي لم تخلُ، ويستحيل أن تخلو، من شيء من العنف. عنف تطهيري جارح دفع ثمنه أصحاب الأرزاق في وسط بيروت التي شُيّدت على أساس باطل.

لا غرابة في أن يشبّه الكثيرون من اللبنانيين وخاصة أهلنا الذين عرفوا بيروت قبل الحرب، بـ”ديزني لاند”، ومنهم والدتي التي تقول إنها كانت (قبل الثورة) صفعة حمراء في وجه بيروت الحقيقية، حيث كان يلتقي الفقير مع الغني والدكاكين مع البسطات.

جاءت الكتابات بشعريتها الفجة، والتي اجتاحت الجدران أصدق من الجدران الجديدة ذاتها. وقدّمت للمُشاهد كيف يمكن أن يكون الفن “عنفا” بصيغته الحاضرة مُعيدا خاصية النطق للدمار بشكله الرمزي والفعلي الذي حل قبل إعمار الوسط التجاري. جاءت الأعمال الفنية بشكل أوراق مُلصقة أو رسومات أو كتابات على الجدران لتحطم حواجز الفصل ما بين العادي، والمُمكن. حلّت لتقدّم لنا خرابا مُعاصرا لا نريده، ولكن.. نحتاجه.

اليوم وهنا يصدق المفكر غاستون باشلار مرة جديدة في مقتطفات من كلماته العابرة لمؤلفاته “الصورة الشعرية ليست صدى لماض بعيد. على العكس: عبر أي مشهد مُشرق، يبرُق الماضي السحيق بأنواره.. ليكون شعارا للذاكرة وللهوية الشخصية والجماعية”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى