دفاعا عن منطق الأعمال الفنية التجهيزية* ميموزا العراوي
النشرة الدولية –
شهدت ساحة الشهداء القائمة بوسط بيروت في منتصف الحراك الشعبي، الذي بدأ منذ أكثر من 20 يوما، هجوما وحشيا ومفاجئا لعدد كبير من الشبان الرافضين لقطع الطريق عند جسر الرينغ، أهم الجسور البيروتية.
معظمهم وصل مدجّجا بالعصي والسكاكين على دراجاتهم النارية وحاولوا إحراق نصب الثورة المتمثل بقبضة مرتفعة في الفضاء بعد تكسير خيم المعتصمين في ساحتي رياض الصلح والشهداء المتصلتين ببعضهما البعض. وما هي إلّا ساعات قليلة، حتى أعاد المعتصمون نصب الخيم وترتيب الساحات.
اللافت لكل مطلع على الأعمال الفنية التجهيزية بشكل عام رؤيته للثوار، وهم كل بطريقته يجمعون كل الأشياء “المُتكسرة” والمحروقة في وسط ساحة الشهداء ليتولوا بعد أقل من نصف ساعة زرع ما بين أعمدتها الحديدية المتكسرة أعلاما لبنانية وسط مجموعة كبيرة من الحاضرين الذين بدأوا إما في التقاط صور فوتوغرافية لها وأمامها، وإما التجوّل من حولها.
تمّ إنجاز هذا العمل الفني التجهيزي بامتياز بعد وضع ورقة كبيرة كتب عليها “مكان مخصّص للعب الأطفال”، في إشارة إلى حركة “اللعب” الباهتة والمُجهضة الهادفة إلى إثارة العصبية الطائفية من قبل الأفراد التابعين للسلطة الذين أرادوا تدمير معاني الثورة التي وحّدت الشعب اللبناني في مشهد عجائبي لم يحدث منذ نهاية الحرب اللبنانية.
هنا نطرح هذا السؤال: من هو صاحب هذا العمل التجهيزي؟ إنه الشعب الثائر وقد استحال فنانا واحدا غير متمرّس فنيا، ولكن ذائع الصيت ومعترفا به عالميا.
لا تكذب المادة التي استخدمت ليُصنع منها هذا العمل الذي جمع قوّة المعدن مع تكسراته في أتون تحوّله إلى معنى واحد لا ثاني له وهو “الثبات”. جاء هذا الثبات جماليا بكل ما تعنيه الكلمة من معنى تناوله الضليعون في الفن في دراستهم لظاهرة فن التجهيز المعاصر. والناظر إلى هذا النصب من بعيد سيراه جميلا.. جميلا كالحياة الناشئة من قلب الموت.
من ناحية أخرى يحيلنا هذا العمل الفني الذي يليق به هذا العنوان “رئة لبنان الحديدية” إلى المُشاهد. من هو المُشاهد لهذا النصب التذكاري على أرض الواقع بعيدا عن صالات الفن المرموقة؟ إنه الذي شارك في صناعته كما يُشارك المُشاهدون في تشكيل تجهيز فني تفاعلي.
قد ألقى هذا النصب، ليلا، رؤية ما ألقى به النصب من ظلال على أرض “المصنع” ليكتسب شاعرية خاصة بعفويتها وقدرتها على التماهي بصريا مع شعبيات شرايين الرئة البشرية، وفي هذه الحالة “رئة لبنان” الواحدة اختنقت مؤخرا بدخان حرائق الأحراش الخضراء.
رئة صلبة وفي آن واحد تسمح بمرور الضوء والهواء إليها ومن خلالها وتدعو المُشاهد إلى أن يستمتع برؤية ما خلفها المُتحرّك والمُتبدّل من ضمن نفس المعنى المُخلّق لها: الأعلام السيارة التي يحملها المتظاهرون.
لا يكفي التساؤل والتأمّل بالعمل الفني هذا وبمُشاهده. هو يحيلنا إلى الآخر الذي أمّن له المواد الفنية الأساسية. إنه سائق الدراجة النارية الذي وصل إلى الساحة ليدمّر فشارك من حيث لا يدري ولا يبغي في بنائه وإعطائه شرف الصفة الشرعية.
وإن عدنا إليه، أي إلى العمل، بتأملاتنا لا بد أن نصل إلى ما قدّمته الفنانة اللبنانية المتعددة الوسائط جنان مكي باشو من أعمال.
وجبت العودة ليس إلى معرضها الأخير الذي هو امتداد واستطراد قدري لما قدّمته سابقا، بل وجبت العودة إلى معرضها ما قبل الأخير في صالة “صالح بركات” الفنية، حيث كان لمادة الحديد المُستخدمة الدور البطولي.
هناك عثرنا على هؤلاء؛ سائقي الدراجات النارية، الذين لم يغادروا إلّا ليعودوا مُجددا ليعيثوا بالخراب. إنهم الفقراء وأيضا هم ضحايا التعنت الطائفي والولاء الأعمى للزعماء.
كان عنوان المعرض آنذاك “حضارة”، وقد صبت فيه الفنانة سردية بصرية مهولة لما يجري ليس فقط في لبنان والمنطقة العربية بل في العالم كله. ومن موجودات المعرض، حينها، منحوتات معدنية تمثل “شلة” من الدراجين مجهولي الملامح الشخصية محمّلين بشتى أدوات القتل والتخريب.
كمن يشاهد فيلما سينمائيا، ولكن بهيئة تجهيز فني، عثر المتنقّل ما بين البقع الجغرافية التي اصطنعها صاحب الصالة على حشد من المنحوتات الحديدية والبرونزية المشغولة ببراعة تقنية دقيقة، تجسّد مختلف أنواع القتل، ولا يعدو سائقو الدراجات التي اجتاحت جسر الرينغ تمهيدا للانقضاض على قلب مدينة بيروت إلّا جزءا أصليا منها.
ردّد المتظاهرون في قلب بيروت وفي باقي المدن والقرى اللبنانية أغاني ثورية ومنها ما يشير إلى الفساد، لعل أهمها هي “من أين لك هذا؟”، والتي يقول مقتطف منها
“من أين لك هذا؟/عم تلعب بلملايين/ناصب على مين ومين/من أين لك هذا؟”.
وإن تحوّل هذا السؤال إلى المعتصمين والمتظاهرين حول ما قدّموه ويقدّمونه اليوم سيجيبون حتما “لنا كل هذا منكم.. من نار الفساد وظلامية الطائفية التي كبلتمونا بها”.
العرب الدولية