سيذهب كل شيء وتبقى القصص* لمياء المقدم
النشرة الدولية –
يقول ابني إنه يريد أن يصبح مترجما مثلي، فأرد بأن عليه أن يصبح شيئا أفضل لأن فرصه في الحياة أكبر واحتياجاته متاحة.
أردد على مسامعه دائما قصة صديقي المغربي الذي كان يقطع جبال الأطلس في شمال المغرب كل صباح إلى المدرسة ذهابا وإيابا، في البرد والظلام وبين وحوش الغابة، في مسافة لا تقل عن 10 كلم ذهابا ومثلها في العودة. صديقي الذي أصبح لاحقا عالم اجتماع وكاتبا مشهورا.
أردد أيضا على مسامعه قصة طه حسين، الأعمى الذي عاش يتيما فقيرا معدما ثم أصبح مفكرا وباحثا وعلامة بارزة في الأدب العربي.
وكلما تراجعت أعداده زادت قصصي، ذلك أني تجرأت مرة، بعد أن حصل على 5 من عشرة في الرياضيات، أن أقص عليه قصة أبوالقاسم الشابي الشاعر الذي مات في عمر 25 سنة بمرض السل، مخلفا ميراثا عظيما من الشعر والفن والمقاومة. قلت هل تعرف أن الثورة التونسية التي هزت العالم، وحركت الثورات في باقي الدول العربية اهتدت على بيت من أبياته؟
ومرة فاجأني بعدد محبط في الكيمياء فقصصت عليه قصة النبي محمد دفعة واحدة، الرجل الأمي الفقير وراعي الأغنام الذي أصبح قدوة للمسلمين ونبيا عليهم وهو لا يقرأ ولا يكتب حرفا.
ولا أدري حقيقة إن كانت هذه القصص تأتي بنتائجها عليه. لا أدري إن كان يجد العبرة داخلها، لكنني أرويها بلا توقف، لأنها كل ما أجيده ولأن رواية القصص أفضل من التوبيخ والتأنيب واللوم.
القصص الأجمل حسب رأيي هي تلك الأقرب إلينا، والتي تشبهنا إلى حد بعيد، وأظن أن قصة ابني المفضلة هي تلك التي تتعلق بشاب مغربي، ولد وتربى- مثله- في هولندا، وعندما بلغ سن 13 اكتشف والده ميولا مثلية لديه، فهجره هو وأمه ليتزوج بامرأة أخرى وينجب أطفالا آخرين (ليسوا مثليين) تاركا الأسرة الصغيرة للفقر والوحدة والشقاء، فما كان من الطفل الصغير المراهق إلا أن اعتمد على نفسه وهو في تلك السن المبكرة ليخرج للعمل في المحلات والأسواق بعد المدرسة وفي أيام الآحاد ليعيل أمه وينفق على دراسته، وهو اليوم سياسي ناجح وبرلماني متفوق في هولندا.
في كل مرة أروي فيها هذه القصة، وهي كثيرة، يطرح ابني سؤالا مختلفا حولها، لكن أغرب تلك الأسئلة كان “لو كنت مثليا كهذا الطفل، كيف كنت ستردين الفعل؟”، وعندما نظرت إليه في دهشة واستغراب، قال بلؤم “اهدئي اهدئي، هذه مداعبة ليس أكثر”. ويومها عرفت أن ابني أراد أن يقلب قصتي عليّ، وأن يجعلني أستخلص العبرة، التي ليست دائما في ما نذهب إليه، بل أحيانا في ما نتركه.
أشفق على أبنائنا منا، لأننا نريد منهم أن يكونوا أفضل مما كناه، وأن يعوضوا خساراتنا ويفعلوا ذلك الذي لم نتمكن نحن من فعله، بسبب الظروف أو الفقر أو الزمن أو الثقافة أو أي عامل آخر. نضع على كاهلهم مسؤولية ما لم يتحقق بحجة أن ظروفهم أفضل وزمنهم أيسر. نريدهم أن يكونوا نحن، في وقت وظروف أفضل، وننسى أنهم يريدون أن يكونوا أنفسهم فقط، أنفسهم لا غير، وأنهم غير معنيين بخساراتنا.
وسوف يذهب الزمن، وتذهب الخسارات، وتذهب الأرقام، لكن القصص ستبقى. شيء منها سيبقى عالقا إلى الأبد، ليس بالضرورة تلك العبرة المسطحة التي كنا نرجو أن نبلغها، لكن، ربما، السكين التي كانت تقطع البصل في تلك اللحظة، صوت القطة الذي أوقف كل شيء فجأة، رائحة الأكل التي تملأ الخيال. وهناك دائما صوت المطر في الخارج، وتلك النافذة نصف المفتوحة التي تطل على الطريق الذي سوف نقف خلفه يوما لنلوح للذاهبين وهم يحشرون حقائبهم في صندوق السيارة الخلفي ويغادرون مخلفين خلفهم الغبار.
عن العرب الدولية