غرافيتي طرابلس: محمد الأبرش يهزم “حركة التوحيد”..ولو بعد حين
النشرة الدولية –
أخذ الغرافيتي بتشكيل وجهٍ جديدٍ لطرابلس (شمالي لبنان)، يصادر انطباعك الأول عند مدخلها الجنوبي. فعلى مشارف ساحة النّور، يطلّ اليوم “مبنى الغندور” بواجهتيه اللّتين طليتا بالكامل بالعلم اللبناني، تسانده الحيطان السّفلى وضفاف الشرفات التي غزتها الثّورة برسوم وشعارات غرافيتي تعلن هويّة وطنيّة تنافي سابقاتها. فقبالتها تنتصب منذ أكثر من أربعة عقود، آية “الله نور السماوات والأرض”، وعبارة “قلعة المسلمين طرابلس”، عند وسطية الساحة التي لطالما أوحت للوافد بأنّه وطأ كانتونًا إسلاميًا منقطعًا عن لبنان، بحسب ما نشرته الزميلة، جودي الأسمر، على موقع “المُدن” الإخباري اللبناني.
مدلولات الهوية لهذه الشعارات تبدو واضحة. لكن، بالعودة الى رواية المشهد الّذي يكثّف في رقعة صغيرة انتماءً للوطن وآخر للدّين، نستنتج علاقة غير مهيّأة للتّكامل، تبلغ حدّ المواجهة. فالشعارات الإسلاميّة التي رفعتها “حركة التوحيد الإسلامي” خلال الحرب الأهليّة، بعدما فجّرت تمثال الزعيم الطرابلسي عبد الحميد كرامي بالديناميت، أتت من فعل عنيفٍ حرّم التماثيل (وبالتأكيد الفن) وحرّم كل انتماء لغير الاسلام، لتستبدله بفرض هويّة إسلاميّة شموليّة اغتصبت تعدّدية المدينة، الّتي ارتفعت أصوات مثقّفيها ومكوناتها المعتدلة والعلمانية والشيوعية، لتطالب بنزع الشعارات، لا سيما لقب القلعة، مما أوحى مذاك بأنّها مدينة تحصّنت بحجريّة ضدّ كل ما يخالف دينها، وقزّمت تأثير هذا الاختلاف بجعله طفيليًا ومغلوبًا عليه مقارنة مع صلابة القلعة وفوقيّتها. إنّما القبض الاسلامي بتطرفه وميليشاويته على أحوال طرابلس وصورتها، أخرس كلّ اعتراض، وحافظ على شعاراته الّتي بدّلت أيضًا اسم “ساحة عبد الحميد كرامي” بـ”ساحة النّور”.
استأنفت الثّورة سرديّة هذا المشهد، لكن برواية مناقضة للماضي، وبكافّة مكوّنات الرّواية. فعلى عكس الحرب الأهليّة، يحفّز رسم الغرافيتي ثورة سلميّة شعبيّة شملت كلّ لبنان وعبَرت طوائفه، حيث أذابت العصبةُ الوطنيّةُ جدرانَ الدّين. ولعلّ مكان رفع هذه الشّعارات ليس أخفّ دلالة من الشعارات نفسها. فالشعارات الاسلامية السابقة ارتفعت على أنقاض تمثال وطني جرى تفجيره، أمّا شعارات الثّورة فحطّت بهدوء على مساحات مبنى الغندور رماديّ اللّون، ومخنوقة المنافذ الّتي كانت سُدّت بباطون مسلّح، تفترض كيانًا أبكم، ولا لون له ولا دور، يمثّل أكثريّة صامتة نزلت مؤخرًا الى الساحة، فاستبدلت موقفها الضبابيّ بانتفاضة صريحة ضد الفساد. وفيما يعكس مجسّم “الله” بدائية في التقنية وافتقاراً للذوق الجمالي، تنسج منمقات الغرافيتي بألوانها الصّارخة ومنحنياتها طاقة شبابيّة تلوّح منذ مدخل المدينة بالولاء الوطني وثورتها لأجله، كأنّها استعارت قطعة من شوارع فيلادلفيا أو نيويورك المكتظة بالغرافيتي المعاصر، تعلن ثورة شعوب كادحة وما عادت مدخلًا لقلعة.
فبعدما احتكرت “قلعة المسلمين طرابلس” عبارة التأهيل- التنفير لزوّار المدينة، يضيف الآن الفنّان محمد الأبرش (27 سنة)، على المبنى، معنى نقيضًا بغرافيتي “طرابلس مدينة السلام”، و”أدخلوها بسلام آمنين”، لأنّ “طرابلس جنّة لبنان”. خلال خمسة أيام، رسم هذه العبارات واحدة تلو الأخرى على المبنى، بعدما كساه برسم العلم اللبناني، الذي بدأ بمدّه منذ أوّل صباح في الثّورة.
لكن محمد الأبرش يستوعب الشعار القديم، ولم يُرِد “القضاء عليه” من خلال الغرافيتي. هو فقط يريد أن يعبّر عن صورة مدينته في عينيه، وبالأسلوب الذي يعرفه. يراها مدينة السلام. يضيف: “حتى شعار قلعة المسلمين، أفهم منه أنّ المسلمين مسالمون وأنّ الاسلام دين السّلام”. يرمي هذا التّوضيح ثمّ ينقل خطواته بخفّة عند شرفة المبنى، بعدما التقطت عيناه خطأ فنيًا كاد يرتكبه أحد الصبيان المتطوعين. نلحق به، فنجده يمدّ يده ليمحو دهانًا انزلق خارج إطار غرافيتي كلمة “ثورة”. في اقترابه، يتماهى مع لوحته ببلوزته السّوداء الّتي تملأها طبعات أرابيسك ذهبيّة. ينقّل خطوات جديدة بين العدّة والدلاء التي فاضت بالألوان، وهو يلقي نظرة سريعة فيطمئن بقيّة الرسامين الصغار بعبارة “كلّو صح، كلّو صح..”.
قليل الكلام، كثير الرسم، يرسم الأبرش منذ 17 سنة على جدران شوارع عديدة في طرابلس، من التبانة الى الملولة والمئتين وعزمي، وكذلك جدران 25 بناية و50 مدرسة طرابلسية. شغله الجميل ومثابرته، نقلا صيته خارج المدينة، فنشر رسومه على جدران 300 مدرسة على امتداد لبنان. نلتقط من فمه جملًا تيليغرافيّة، لنحاول تركيب هذا الوجه الّذي يغيّر وجه طربلس “أنا من منطقة باب التّبانة. أدرس الهندسة المعماريّة ولا أعمل”. وحين سألناه عن نشاط آخر يمارسه غير الدراسة، أجاب: “أرسم”.
لم تكن الثّورة وحدها دافعًا لمحمد للمبادرة بالغرافيتي، بل شعوره بالاستياء من شعارات أخرى يصفها بـ”الكلام البذيء” الذي اجتاح حيطان بيروت في أوّل يوم ثورة، بالاضافة الى كلمة “ثورة” الّتي كتبت كـ”خربشات رديئة. أنا هنا أحمل تجميل المدينة على عاتقي وأريدها أن تكون جميلة”. من خلال حملات تبرّعات متدرّجة أطلقها من حسابه في “فايسبوك”، استطاع الفنّان أولاً حشد التمويل ليطلي العلم اللبناني على مساحة المبنى، ثمّ لاحظ أنّ المنصّة تحتاج للتجميل فأضاف عليها الغرافيتي. في المرحلة الثّالثة، انتقل لإضافة الشعارات المكتوبة. ولم يكتفِ محمد الأبرش بتوقيع اسمه على الغرافيتي، فمدّ على حائطه السّفليّ بورتريه ذاتياً، لعله أراد به حفظ ملكيته الصوريّة. بعد أيام، رسم على الحائط نفسه بورتريه للشهيد حسين العطّار، أضاء خلفيته السوداء بهالة فوسفورية، منضمًّا الى بورتريه الشهيد علاء أبو فخر وزوجته وابنه الذين رسمهم زميله غياث الروبة. حوّل هذا الغرافيتي، الحائط، الى ألبومٍ لوجوه من الثّورة، يوثّق بورتريهات الشهداء والرسّام الأبرش.
ومن الملفت أنّ تقنية الأبرش تغطّي أنماطاً غرافيتية عديدة، إذ تتكامل على المبنى تقنية الوسم البسيط المعروفة بالـThrow up من خلال كلمة “ثورة” التي تترك بصمة بصريّة معقّدة، إلا أنها تتميّز بشكلها الملفت وبكادر من الأرابيسك. وأسفل المبنى، اعتمد النمط العشوائي “Wildstyle” الذي يشي بخبرة متقدمة في ربط الحروف والنقاط مع بعضها. أمّا العَلَم اللبناني الذي كسا المبنى، من أسفله الى أعلاه، فامتدّ من خلال الفراشي الدورانيّة (Roller) التي غطت مساحات واسعة من الجدران، فساعدت في تشكيل نمط التصميم الكامل “Top to Bottoms”، وهو النّمط الأصعب الذي حوّل الجوانب الكاملة للمبنى، وأطلق الدهشة الأولى حيال موهبة الأبرش، الّذي أكمل تأهيل المبنى المهجور بباقي التصاميم.
وفيما ترتبط ثقافة الغرافيتي ببدائيّة تردّ أصوله الى ما قبل اختراع اللغة وانتشار الرسوم على جدران الكهوف، ورغم تطوّرها وانتقالها الى معنى تجريدي ضمّتها الى الفنون التصويريّة، بقي الغرافيتي تعبيرًا يتّخذه العالم السّفلي للمدن الحديثة، التي تزنّرها أحزمة البؤس وتنتشر في ضواحيها الغيتوهات العرقيّة، لا سيّما من أصول إفريقية والتي صنّفتها الولايات المتحدة خلال ستينيات القرن التاسع عشر في أسفل السلم العنصري. والتأم هذا الرّسم لاحقًا مع موسيقى الرّاب والهيب هوب الّتي ضخها “الهيبيز” من قلب الشّوارع، لتزيد النمطية العبثية “الصبيانيّة” لهذا الفنّ، ولتبعث الشكّ في مقاصده التخريبيّة، من خلال رسوم تحتل الفضاءات العامّة.
في مقابل نظرة محمّد الأبرش الايجابية، للشعارات وللمدينة التي تسكنها هذه الشعارات، تنعكس خصوصًا في هذا الفنّ، إذ يجد الغرافيتي “معرضًا دائمًا في الهواء الطّلق” وليس “لغة زعران”. كذلك يرفض أنّ يُسمّى ممارسوه بـ”الدهّانين”. الاستنتاج الأخير استشفّيناه خلال ملاسنة كادت تبدأ بين محمد، وبين حارس مبنى الغندور الذي تحدث عبر جهاز اللاسلكي ليخبر المسؤولين في الداخل بأنّ دهّان المبنى سيدخل مع مجموعته. أطوار محمّد الهادئة خانته في هذا الموقف، فصحّح للمتحدّث بصرامة: “أنا فنّان ولستُ دهانًا”. في السياق، يقول بأنّه يحاول إنضاج النّظرة العامّة للغرافيتي، فيسعى الى توخّي الفنّيّة العالية ويتجنّب في شعاراته العبارات النّابية “ثمّ إن هذا الغرافيتي غيّر وجه طرابلس. قلب صورتها رأسًا على عقب”، واصفًا ما تحقّقه جدارياته بـ”الإنجاز” المرافق للثورة.
هو حقًّا إنجاز يسجّل، أن غرافيتي عند طرف الساحة يساهم في جعل طرابلس عروسًا للثّورة، فأعطى وجهًا جذابًا للعروس التي ما عادت من المدن الأطراف، بل صارت مركزًا للرواية اللبنانية الجديدة. مبنى كان متروكًا ومهجورًا على الهامش، صار بفضل الغرافيتي واجهة المدينة، فساعد في انتقالها من حالة اخبارية مكتومة، إلى نجمة ثورية تصدّرت صورها الصفحات الديجيتالية ومانشيتات الصحف. غرافيتي دخل ثورة لبنان لينفي صعلكته، وثورة لبنان تستعين بالغرافيتي لأيقنة شعاراتها. وكلاهما يتكاملان لتبييض صفحة سوداء بما فيها راياتها الانعزالية المهلهلة، بأيدٍ مرهفة ومبدعة، تتناسل منها الألوان، غير حاقدة، لكنها لا تساوم على حقّها في التعبير والتجميل والثّورة.