مبنى اليونسكو الشاهد على مراحل الحرب وبداية انتهائها* ميموزا العراوي
النشرة الدولية –
تاريخيا، خلال وما بعد أي حرب جرت تظهر شتى أنواع التوثيق لها بالكلمات المكتوبة وبالرسومات المنفذة على أرض المعارك، وباللوحات التشكيلية التي كانت في البداية معنية بإظهار الحاكم بأبهى صوره.
بعد ذلك دخلت الصورة الفوتوغرافية لتطغى على ما قدّمته اللوحات التشكيلية.
وأهم أسباب طغيانها تجلى في كونها أسرع في التقاط المشاهد وأكثر “حقيقية” من اللوحات التشكيلية. وينسحب الأمر ذاته على الأفلام التصويرية التي لعبت ولا تزال دورا مهما جدا في مجال الأرشفة الصورية والسمعية للحوادث.
ثم جاء الزمن المعاصر الذي تعرّضت فيه الصورة التوثيقية إلى هزات في مصداقيتها بعد إمكانية استخدام تطبيقات رقمية قادرة على تحويرها وتقديمها للمشاهد على أنها غير معدلة لتنتشر بعد ذلك على شبكات التواصل الاجتماعي مثيرة للبلبلة أو واقعة تحت مجهر التحقيق.
وبالطبع لم يقف لبنان خارج هذه المنظومة، ولكنه اختلف بشكل جذري مع باقي البلدان في كون “حربه” التي دامت 15 سنة، لتستمر في أشكال أخرى بعد انتهاءها رسميا سنة 1992، لم تكتب لا بصريا ولا بأي شكل آخر بصفة رسمية مُتّفق عليها لتُدرّس في المدارس.
يعود ذلك إلى أن الفرقاء المتنازعين استمر حضورهم، ليس فقط كأحزاب وجماعات تابعة لها، بل كونهم استلموا سداد الحكم في حكومات تعاقبت حتى يومنا هذا. فما من أحد من تلك الأحزاب أو الجماعات رضي بأن يُعرض تاريخه كما هو في حقيقته، ولا أن يمثّل دوره الأساسي في حرب قاهرة لم تُرتّب أوراقها حتى الآن، بل تبعثرت أكثر من خلال عمليات التوريث التي ضمن فيها أبناء زعماء الحرب استمرارية الغوغائية التاريخية لما حصل فعلا.
يحيلنا هذا مباشرة إلى حاضر الثورة اللبنانية بجانبها الفني والذي ضم أعدادا هائلة من جيل الحرب والجيل الجديد على السواء. هؤلاء تولوا بداية كتابة تاريخ لبنان المعاصر دون مراوغة.
وإن كانت باقي الثورات العربية من خلال فن الغرافيتي وغيره من الفنون قدّمت نصوصا رائعة بمضمونها وشكلها على السواء، إلاّ أنها في معظمها لم تتحمل “وظيفة” كتابة تاريخ مجهول بالنسبة للجيل الجديد.
لا، بل وقد كرّس هذا الفراغ التوثيقي الذي انطلقت منه الثورة بداية لتشكيل جيل ينظر بوضوح غير معهود إلى الأحزاب التي كانت متورطة في الحرب. فلم يعد هذا أو ذاك الحزب الأنصع والأصلح للبقاء في الحكم.
جاءت الثورة لاسيما من خلال فنونها لينخرط فيها الجيل الجديد انخراطه في حالة إنقاذ كبرى يعوّل عليها لأجل بناء بلد لم يعد يخشى النظر مباشرة ومن دون وسيط في عين الحرب اللبنانية وأبطالها.
ثمة فنانون شباب كثر عادوا فرادى إلى نبش التاريخ إن من خلال صور قديمة أو من خلال العودة إلى وثائق موجودة على النت وفي كتب مهملة لم يلتفتوا إليها جديا إلاّ اليوم. وهناك قسم كبير من الفنانين أصغوا بسمع نقدي إلى الذكريات الشخصية لأفراد عاديين قد تأذّوا مباشرة من الحرب ليغذّوا بها نصوصهم البصرية.
اليوم، إن ذهبنا إلى وسط بيروت سنعثر على شاهد على الحرب وعلى كم الذاكرة وانبعاثها ومحاولة خط سيرة أكثر إشراقا للبنان في آن واحد.
في هذا الوسط، ومنذ نهاية الحرب رسميا، حضر مبنى اليونسكو المعاصر، ذو الهيئة الزجاجية، الذي شُيد في فترة الإعمار التي تلت الحرب، لينطق بهذه الكلمات “انتهت الحرب، انظروا إلى بنياني الزجاجي، أنا لا أخاف طلقة رصاص واحدة”. غير أن ما نطقه آنذاك لم يكن آخر ولا أصدق ما نطق به، إذ توالت السنين واحتدمت المواجهات بين اللبنانيين في الساحات بعد أن انقسموا إلى فريق ينتمي إلى 8 آذار وفريق ينتمي إلى 14 آذار (مارس).
شُل وسط بيروت وزرعت الأسلاك الشائكة والحواجز وبني جدار باطوني مُسلح من أقسام مركبة أمامه بعد أن طالته أعمال شغب متلاحقة. فأصبح المبنى وما يحيط به تأكيدا على حضور الحرب وغياب ذاكرتها في آن واحد.
ومع اندلاع الشرارة الأولى للثورة أصبح هذا الجدار مسرحا لانبعاث الذاكرة الجماعية، إذ تحوّل إلى الصفحة الأولى التي تلقّت كتابات ورسومات الثورة الداعمة لها والمدينة لما شكّله مبنى اليونسكو بأنقاته الزجاجية من تأكيد ساذج على أن كل ما كان، كان وكأنه لم يكن.
بعد الأيام الأولى على هذا الانبعاث حضر إلى جانب تلك الأعمال الغرافيتية والشعارات المكتوبة، دور المنصات الافتراضية (كبديلة عن زجاجية مبنى اليونسكو) كجدران شفافة تفاعلية مفتوحة لتفريخ فني المنحى لأهوال الحرب وقمع الذاكرة وتوجيه التهم إلى مسببيها وإلى المنخرطين فيها.
جاءت معظم الأعمال، إلى جانب محاكاة اللحظة الراهنة من مظاهر الثورة، تطهيرية دخل فيها الفنان والآلاف من المشاهدين في تلاق حفّز ولا يزال كل ما يمكن تخيّله من معان إيجابية.
هكذا، تحوّل مبنى اليونسكو وما يقف أمامه من جدار وما يحدث من حوله من مظاهرات إلى جامع للمجد من أطرافه وعلى مستويين. المستوى الأول هو لقاء الحرب بالذاكرة، بالتوثيق، بالفنية البصرية، وبالتطلع إلى مستقبل يُرجى منه أن يكون مختلفا.
أما المستوى الثاني فهو يتمثل بلقاء شعلة الثورة وهو الجيل الجديد، بوقودها وهو جيل الحرب، بملهمها، أي من عرف وعاش لبنان في زمنه الذهبي قبل اندلاع الحرب.
عن العرب الدولية