الحب والخوف لا يلتقيان* لمياء المقدم

النشرة الدولية –

يكفي حدث صغير ليحرك برك الخوف داخلي، حدث أشعر معه بتهديد من أي نوع. منذ أسبوع مسكتني الشرطة لأن رخصة السياقة منتهية منذ سنة تقريبا. طبعا لا علم لي بذلك، فالرخصة تتجدد مرة كل عشر سنوات. من يستطيع أن يتذكر موعدا بعد عشر سنوات؟ صدمتي كانت عندما شرع الشرطي يتلو علي النص القانوني المتعلق بواجباتي وحقوقي قائلا “من حقك التزام الصمت والاستعانة بمحام”، وهو ما يعني أنني ارتكبت عملا يعاقب عليه القانون، وربما صفحة سوابق وتعقيدات كثيرة أخرى (نشط خيالي).

يأتي الخوف من حيث لا نعلم. يتسرب تدريجيًا ليأخذ مكانه بين المشاعر الكثيرة التي تنهال علينا كل يوم. يبدأ الخوف صغيرا ثم يكبر كأي شيء سواه. في البدء نخاف أن نكون قد نسينا أن نطفئ النور قبل أن نخرج، أن نغلق الباب، أن نتصل بمصلحة الضرائب لنستفسر عن المبلغ الذي تطلبه بعجالة مفرطة، موعد طبيب الأسنان.. ثم يتطور ليأخذ شكلًا أكثر تعقيدا: الخوف من فقدان العمل، من فشل الأطفال في الدراسة، من دهس أحدهم بالسيارة، وأخيرا.. الخوف من الحياة نفسها.

لا أعرف متى بدأت أخاف، لكنني على الأرجح ولدت ومعي خوفي، فقد كنت من صغري أحجم عن القيام بأشياء كثيرة مما يقوم به أطفال آخرون. يكفي درج صغير ليحول حياتي إلى كابوس حقيقي. وحكاية الدرج هذه خلفت لدي عاهة لا تمحى. فقد كان أمام مدرستي درج إسفلتي صغير، وكان يبدو لي في ذلك الوقت جبلا عصيا على أن أتسلقه يوميا قبل أن أصل إلى فصلي. كنت أصعد الدرجات الواحدة تلو الأخرى وفي داخلي رعب من أن أسقط وأتدحرج إلى أسفل الدرج. أعيش الآن في بيت أرضي تتساوى عتبته مع الرصيف، ولا أتذكر من تلك الأيام -ذات الشقاء العالي- شيئا.

واحد من مخاوفي الكثيرة أن أفقد يد أمي في الزحام، لم يكن هناك زحام في مدينتي الصغيرة، ولكن ماذا تفعل لخيال طفل؟ في فراشي تنتابني نوبات بكاء وهلع شديد، وأبحث عن يد أمي بين الأيدي الكثيرة، وعندما ماتت لاحقا احتفظت بأساورها النحاسية من بين كل أمتعتها الكثيرة، ذلك الناقوس الذي يعيدني إلى البيت كلما تهت.

لم يكن الخوف ناتجا عن حدث معين، كانت طفولتي هادئة نوعا ما، وكنت ألاحظ ودا وحبا حقيقيا بين والديَّ. لاحقا عندما كبرت وقرأت في مجلة متخصصة في علم النفس أن الخوف من سمات الأطفال الموهوبين، ارتحت كثيرا لهذا الكوجيتو العلمي الدقيق. تقبلت خوفي واحتضنته وتصالحت معه، وعندها فقط تجرأت لأول مرة على أن أروي لابني شيئا من خوفي. قلت له إنني كنت أبكي بالساعات في فراشي بدموع حقيقية، دموع ضخمة وشهقات وانتفاضات وأنا أتخيل موت أمي. لم تكن أمي مريضة ولا شيء كان ينبئ بأن موتها قريب، لكنني لم أتوقف سنوات طويلة عن البكاء تحت غطائي. وعندما  قال اِبني مندهشا “أنت مريضة”، أجبت بثقة تامة “الخوف سمة الموهوبين!”.

لا يمكن للخوف أن يكون صديقًا. الخوف عدو حقيقي، مهمته عرقلة الحياة، وأسوأ ما فيه قدرته على جعلنا نتكور بنفس تلك الطريقة الطفولية. نذهب إلى العمل ونحن متكورون، نأكل ونشرب ونربي أبناءنا ونحن متكورون، نكتب ونسافر ونحب ونحن متكورون…

ومرة سألت صديقة لي مختصة فقالت “الخوف والحب لا يلتقيان”. تعجبت كثيرا من هذه القاعدة النفسية التي بدت لي غير قابلة للتصديق؛ فنصف أبنائنا يحبون آباءهم وهم يخافون منهم، ونصف نسائنا يحببن أزواجهن وهن يتعرضن للعنف والتحقير والتخويف منهم.

لكنني أصدق العلم دائما: لا حب مع الخوف. لا بد أن هذه كراهية مقنعة. بإمكانك أن تتخيل عالما يعيش نصف سكانه في كراهية. ثم نتساءل من أين يأتي كل هذا الخراب، هذه الحروب، المجاعات، الظلم والمجازر؟

الخوف والحب بينهما برزخ لا يلتقيان وعليك أن تختار بين امرأة تحبك وامرأة  تخشاك، لكنك لن تحظى بالاثنتين معًا. هذه طبيعة الإنسان.

العرب الدولية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button