الحاسة السادسة* لمياء المقدم

النشرة الدولية –

يقول ابني إنه لن ينسى أبدا، مهما تقدم به العمر، أنني أفتح له الباب في اللحظة التي يرفع فيها يده باتجاه الجرس عائدا من المدرسة. يقول إن هذه الصورة ستظل مرسومة بين عينيه حتى بعد مماتي.

في البدء اعتقدنا أنها مجرد مصادفة، ثم تكررت كثيرا حتى أصبحنا نحن الاثنان نندهش كلما التقى وجهانا على الباب، تفصلهما العتبة وجملة غير مكتملة على لساني أو في ذهني: “لماذا تأخر.. ت  إلى الآن؟”.

لم يقتصر الأمر على الباب وإنما تعداه إلى أشياء كثيرة أخرى، فمرة حذرته من أن ينسى دراجته مفتوحة في الخارج، في الصباح وجدها قد سرقت. ومرة ‍ترجيته أن يبعد ساقه قليلا عن عجلة الدراجة، بعد عدة أمتار دخلت رجله في العجلة وانكسرت.

شخصيا لم أعر الأمر أهمية كبرى فهذا يحدث كل يوم وفي كل مكان، لكن ابني الصغير معجب بل ومنبهر بشدة بقدرتي على الإحساس بالأشياء قبل وقوعها، حتى أنه مرة أخبرني أنه بات ينفذ ما أطلبه منه خشية أن يترتب أمر غير محمود على عدم  سماعه لكلامي.

وكعادة الأمهات، استغليت الأمر لصالحي فترة طويلة من الزمن، سعيدة بتجاوبه واستجابته السريعة لكل ما أطلبه، ساعدني في ذلك أن موضوع الباب تكرر أكثر من مرة، حتى باتت حاستي السادسة أمرا مسلما به ومفروغا منه.

جاءني في إحدى الليالي إلى فراشي يسألني عن الحاسة السادسة، ما هي؟ وما الفرق بينها وبين التخاطر؟ لماذا توجد عند بعض الأشخاص ولا توجد عند آخرين؟ هل هي شيء يولد معنا أم نكتسبه؟ وأسئلة كثيرة أخرى.

وقلت إن الأمهات جميعهن يملكن شيئا منها يتفاوت من أم إلى أخرى وإن طبيعة العلاقة بين الأم وابنها قوية إلى درجة أنها قد تشعر بما يشعر به من فرح وألم، وأن الحاسة السادسة هي الرابط الخفي الذي يربطنا بمن نحبهم ونخاف عليهم إلى حد كبير، وكلما شفت علاقتنا بهم كلما زاد إحساسنا بهم.

وقلت إن الأمر لا يقتصر على البشر وإنما يمتد لكل ما تربطنا به علاقة قوية، ورويت له قصة فتاة جلست بجانبي في الطائرة في إحدى الرحلات، وكان كلبها محشورا في جزء مخصص للحيوانات على نفس الطائرة. ولم تتوقف الفتاة عن الحديث عن كلبها طوال الرحلة، وعندما سألتها إن كانت تشعر بقلق عليه، قالت بثقة شديدة “إطلاقا هو بخير تماما، ولو لم يكن كذلك لأحسست بالأمر، أنا فقط أتكلم عنه لأسليه”.

وقلت إن الإنسان قادر على تطوير أي ملكة لديه من خلال التركيز عليها وتهذيبها والتدرب على اكتشاف نقاط قوته والتصنت إلى صوته الداخلي، وإن الحاسة السادسة مثلها مثل أي حاسة أو موهبة أخرى، قابلة لأن نشتغل عليها ونطورها وننميها، وأنه كلما صفا الإنسان واقترب من نفسه وابتعد عن الإدعاء والكذب والتصنع والمغالاة كلما كان نقيا وشفافا وقريبا من الحقيقة، الحقيقة التي هي قلب كل شيء.

ومرت أيام على هذه المحادثة، حتى نسيتها أو كدت، إلى أن جاء يوم ذهبت فيه للتسوق من السوبرماركت القريب من البيت، وفي طريق عودتي التقيت ابني قادما باتجاهي. في البدء اعتقدت أنه نسي أن يطلب مني شراء شيء معين ولهذا السبب جاء ورائي، لكنني اندهشت وأنا أسمعه يقول “شيء ما قال لي إن الأكياس ثقيلة جدا وأنه يجب أن آتي لمساعدتك على حملها”! أعطيته واحدا من الكيسين وأنا لا أكاد أصدق ما سمعته للتو.

وبالطبع كانت الأكياس ثقيلة جدا، حتى وإن لم تكن ثقيلة. ومؤكد أن حاستي السادسة أخطأت مئات المرات قبل أن تصيب تلك المرة المتعلقة بفتح الباب، ولكن من قال إن هذا هو المهم؟ ومن قال إن الحاسة السادسة أو أي شيء آخر أكثر واقعية من تصورنا عنه؟ نحن نصدق فنؤمن، ونؤمن فنحب، ونحب فننجو، وهذا كل ما في الأمر. ليس أكثر، ليس أقل.

العرب الدولية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى