بمناسبة صدور روايتها “الملائكة لا تطير” الأديبة التونسية فاطمة بن محمود تعلن: الأدب لا يحتاج إلى صالونات ولا اتحادات ولا منظمات رسمية.

تنمو الأحلام في الأوطان الحزينة وفي الأنظمة الديكتاتورية.

في روايتي أتجرأ على الطابو وأفجر بنية التفكير السلفي.

النشرة الدولية – حوار طلال السُكر –

الكاتبة فاطمة بن محمود من أهم الأسماء الأدبية في تونس، لفتت الإنتباه إليها  في المشهد الأدبي العربي بنصوص إبداعية مختلفة، في الشعر لتميزها في كتابة الومضة و القصائد النثرية وأيضا في القصة القصيرة جدا التي أصدرت فيها كتابين تم نشرهما في المغرب، إضافة للرواية  عندما وصلت روايتها الأخيرة ” الملائكة لا تطير” في صنف المخطوط إلى القائمة القصيرة في واحدة من أهم المسابقات العربية جائزة راشد الشرقي بالامارات، التي أصدرتها منذ أيام قليلة عن دار زينب للنشر بتونس وكان لنا معها هذا الحوار الخاص.

متى بدأت فاطمة الكتابة؟

البداية لم تكون واحدة بل هي متعددة، البداية الأولى والتي لا تتكرر عندما اكتشفت قوة تأثير الكلمة، حدث هذا في زمن بعيد قرأت قصائد أثارت انفعالي وصدقتها حتى إني أحيانا بتأثيرا منها كنت أبكي أو أضحك أو أحلم.. قلت في نفسي طالما ان للشعر سحرا يجب أن أتدرب عليه ومن يومها أنا أكتب وأمحو و هنا تأتي البدايات التي تتكرر في كل قصيد جديد، في كل نص سردي جديد..

كيف ساهمت سنوات النشأة الأولى في تشكيل وعيك الثقافي وذائقتك الإبداعية؟

تشكيل الوعي الثقافي والذائقة الإبداعية لا يرتبطان ضرورة بالنشأة الأولى، إنما هو عمل متواصل لذلك أعتقد ان من شروط المبدع أن يكون على صلة مباشرة بالإبداع من خلال تطوير شغفه القرائي إلى جانب توطيد علاقته بالجمال في الحياة، في الطبيعة، في العلاقات الإنسانية، في الوجود عموما. بفعل القراءة المتواصل والانفتاح على الجمال يحافظ المبدع على حس أدبي وجمالي يوقظان لديه القدرة على الانتباه لنبض الألم و بالتالي التقاط الحياة، هنا ألاحظ أن هناك علاقة شديدة بين الألم والحياة لأني أعتقد انه عندما ندرك حقيقة الألم نفهم قيمة الحياة وبالتالي نحتاج أن نكتب.

من كان يدعم ويؤازر فاطمة حتى وصلت إلى ما هي عليه الآن؟

أمي هي أهم شخصية ملهمة في حياتي، استطاعت أن توقظ فيّ الإحساس الرفيع بالأشياء وتجعل علاقتي وطيدة جدا بالحياة، كانت امرأة بدوية رغم أنها من سكان المدينة، اقصد كانت بدوية في أخلاقها العالية وكرمها ولطفها وحسن ظنها بالناس لذلك أجدها منبع القيم، كما أن الحياة لم تكن سهلة بالنسبة لي لذلك كانت أمي أكبر محفّز لي تدفعني بكل طاقة إلى كل بؤرة ضوء وتحوّل المستحيل ممكنا، كما أنها أول من ابتسمت في وجه خربشاتي وجعلتني أصدق انها قصائد، هذا دفعني لمواصلة الكتابة فتحولت خربشات الطفولة بعد سنوات طويلة إلى إصدارات أدبية مختلفة. لكل ذلك أنا ممتنة لأمي و اعتبر نفسي على حظ كبير اني سليلتها، كانت فعلا شخصية عظيمة ولا تُنسى عند كل من عرفها.

الأدب كائن أرعن!

هل ترى فاطمة أن للصالونات الثقافية أهمية في زمننا الحالي؟

الأدب لا يحتاج إلى صالونات ولا يحتاج إلى مقاعد وثيرة، كما لا يحتاج إلى اتحادات ومنظمات رسمية، الأدب كائن أرعن خارج السائد و ضد المألوف يكره الاجتماعات و يستمتع بالتسكع في الشوارع والمقاهي ومصاحبة البؤساء والغاضبين والغرباء، الأدب كائن مهمل لا تليق به الكرافات و لا يتحمل روائح عطور باهضة الثمن، الأدب صعلوك مشاكس ومتمرد وغاضب ومرتبك و قلق و حائر ومنبهر و في حالة شك متواصل. الصالونات الأدبية يحتاجها بعض الكُتاب أنصاف المواهب يتجمعون فيها لينفخوا في نصوص بعضهم و يتبادلون الأكاذيب بشأن مواهبهم المغشوشة حتى يصدقوا أنهم مبدعين. تماما مثل ان الاتحادات يحتاجها بعض الكُتاب ممن يحبون الركوب على الأدب للوصول سريعا إلى مناصب و يغنمون أشياء عادة لا علاقة لها بالأدب.

لذلك تزدهر في مثل هذه الصالونات الشللية و يشتد الضجيج الذي يزعج الأدب و يجعله ينفر مجالسهم.

ما المواصفات التي يجب توافرها في الكاتب الروائي أو الروائية؟

لا أعتقد ان هناك مواصفات محددة إذا التزم بها أصبح كاتبا، حتى إن وُجِدت مثل هذه الوصفة لستُ مؤهلة للبحث فيها و لا يعنيني تقديمها لأي شخص، الأدب عموما يرفض فكرة المعلم الناصح الذي يملك المعرفة التامة، قد نجد مثل هذا المعلم في الايديولوجيا أوالدين ولكن الأدب مثل الفلسفة يجب أن يقطع علاقته بالأب ليكون.

هذا رأيي في نجومية الكُتّاب

هل تعترضين على نجومية بعض الشعراء والكتاب؟   

أبدا لا اعترض على ذلك، كل حر في أن يكون نجما على طريقته، لكن اعتقد ان الكاتب النجم سرعان ما يحترق خصوصا إذا صدق انه نجما يصيبه الغرور وعندها ينتهي إبداعه وتنضب موهبته، واعتقد أننا في تونس وفي الوطن العربي خسرنا الكثير من المواهب التي كان يمكن أن تتطور و يصبح أصحابها من الأسماء الأدبية المهمة.

أنا أفضل نجومية أبطال الروايات، تعجبني مثلا شخصية السيد أحمد عبد الجواد عند نجيب محفوظ الذي أصبح رمزا للوعي الأبوي المتسلط و تعجبني نجومية مصطفى سعيد عند الطيب صالح التي تحولت إلى رمز لكل جنوبي يبحث عن هويته.  سعي الروائي لنحت شخصية قد تتحول الى نجم هي التي تجعله يسعى لتجويد ما يكتب. أعتقد أيضا أن الأسلوب أو اللمسة التي تكتسبها قصائد تجعلها تشير إلى الشاعر دون أن يضع اسمه على القصيد هي التي تبدو أهم، لذلك يمكن بسهولة أن تتعرف على قصائد درويش قبل ان تقرأ اسمه وأحيانا تتعرف على قصائده عند شاعر أخر مقلدا له، بمعنى ان محمود درويش نجح في يُكسب طريقته في الكتابة نجومية وهي التي منحته الشهرة التي يستحقها وهكذا فعل حنا مينا مثلا وأمل دنقل وغيرهما كثير.   

كيف تمنحك الحريّة كتابة نصاً أدبياً؟

الحرية ليست منفصلة عن العمل الإبداعي حتى تدفع لكتابة النص الأدبي، الحرية هي الشرط الداخلي للكتابة و بدونها لا يكتب نصا إبداعيا. أتحدث هنا عن الحرية في اللحظة الصفر من الإبداع والتي تهيمن على المبدع و تزيح عن طريقه الموروث الأخلاقي والقيم السائدة وسلطة الرقيب وكل ما من شأنه أن يتدخل في تشكيل النص. الحرية بالنسبة للكاتب مثل الفضاء بالنسبة لعصفور إنها شرط وجود.

هل فكرتِ في الكتابة بغير العربية للتواصل مع قارئ من ثقافة مغايرة؟

أظن انك تتحدث عن اتساع نسبة المقروئية، فعلا الترجمة تساعد على ذلك. لكن التواصل مع القارئ لا يحتاج ضرورة أن نكتب بلغات أخرى بل أن نكتب فنستطيع النفاذ من لغتنا إلى الأخر، أن نتحدث في موضوع نستمده من بيئتنا الثقافية المحلية ونستطيع رغم ذلك ملامسة قارئ في ثقافة أخرى وهذه تعود إلى تقنية الكتابة والزاوية التي ينظر بها الكاتب إلى موضوعه والفكرة التي يشتغل عليها. العديد من المبدعين في العالم وصلوا إلينا نحن في الثقافة العربية دون أن يحتاجوا الكتابة مباشرة بلغتنا.

الإحباط هو المحرك لكتاباتي

ما المحرّك الأكبر في أعمالك؟

أعتقد ان الإحباط هو الذي يغذي النصوص الأدبية التي أكتبها، اشعر دائما بالإحباط بتربص بي يرميني بالحجارة ويفسد مزاجي و يدفع لي مشاعر الألم  ويعمّق الشعور بالمرارة من كل شيء، هذا يؤدي بي أن أكون دائما على حافة الانهيار ومهددة بالاكتئاب. لذلك مضطرة أن أدافع عن نفسي بالكتابة وأحاول دائما أن أجوّد طرق الدفاع حتى لا أكون كاتبة نمطية ومستهلكة في أساليبها.

ما هو الحلم الذي يراود فاطمة؟

ليس لي حلم واحد بل أحلام عديدة، لدي أحلام قديمة لم تتحقق وتناسلت منها أخرى حتى انك لا تكاد تظفر بركن في حياتي خاليا من حلم ما،  هذا يؤلمني كثيرا لأنه يعني أن هذه الأحلام لم تتحقق لذلك هي تتراكم باستمرار لكن ما يخفف عني ان الوضع لا يرتبط بي بل هو عام، كلنا نرزح تحت ثقل الأحلام التي تنمو وتتراكم لدى الشعوب الحزينة للأسف.

هناك اتّجاه إلى تداخل الأجناس الإبداعيّة في المنتج الإبداعيّ العربيّ. كيف ترين ذلك؟

نحن نعيش في مرحلة مهمة من التاريخ حيث تتقاطع كل الانتاجات المعرفية الفلسفة بالأدب بالعلوم والتكنولوجيا بالأخلاق بالسياسة كذلك نعيش في جغرافيا متداخلة تحول فيها العالم إلى قرية صغيرة لذلك من الطبيعي جدا أن تتفاعل الأجناس الإبداعية فيما بينها وينفتح الأدب على السينما والمسرح والفنون التشكيلية و الرقص و غيرها.. هذا طبيعي و لا يجب أن نرفضه لأننا سنكون ضد حركة التاريخ و ضد اللحظة التي نعيشها. كما أفسر هذا التداخل بأنه إثراء للمشهد الإبداعي و توسيع لأفق الإبداع، لم يعد بالإمكان الاقتصار على زاوية واحدة لرؤية العالم و لا على طريقة واحدة للتعبير عنه.

السؤال الهاجس بالنسبة لي ليس حول مشروعية تداخل الأجناس بل حول رهاناتها في الحياة لذلك يجوز أن نسأل إلى أي مدى يمكن لهذا التجانس أن يحافظ على وحدة الإنسان و قيمته وان يخفف من شدة العنف المنتشر في العالم ؟

حدثينا عن رئاستك لجمعية الكاتبات المغاربيات بتونس؟

أترأس جمعية الكاتبات المغاربيات وهي ليست جمعية رسمية ولا نتلقى أي دعم من أي جهة رسمية وهي بالنسبة لي تجربة أدبية، لذلك سعيت في كل لقاء أن لا يكون للضيف المبدع حضور استعراضي لمجرد تقديم الكتب بل حولت اللقاء إلى ما يشبه الندوة الخاصة به، لذلك أقدم بنفسي مقاربة أدبية للأثر الأدبي الذي نختاره. المقاربات النقدية تتنزل في إطار مشروع كتاب لذلك قلت عند تأسيس الجمعية انها مرتبطة بهدف حالما أحققه أغادر هذه التجربة وأبحث عن تجربة أدبية أخرى، وهذه  مناسبة أشكر صديقتي ورفيقتي في الجمعية الشاعرة ريم القمري على وفائها لهذا الحلم و التزامها به كتجربة أدبية تسعى بدورها للاستفادة منها وإثراء مسيرتها الأدبية.

أخيرا صدرت روايتك “الملائكة لا تطير” التي وصلت للقائمة القصيرة في جائزة راشد الشرقي بدولة الإمارات، كيف تقدمي هذا العمل ؟

صدرت لي منذ أيام رواية بعنوان ” الملائكة لا تطير” عن دار زينب للنشر، هذه الرواية التي استغرقني كتابتها أكثر من خمس سنوات بين كتابة و إعادة كتابة، وصلت للقائمة القصيرة في جائزة راشد الشرقي بدولة الإمارات اخترت فيها أن اكتب عن إحدى اللحظات الحارقة التي عاشتها تونس زمن حكم الترويكا بقيادة حزب النهضة الإسلامي لذلك كانت تيمة الرواية تفتح على السياسي و الديني و الجسد في آن واحد.

ما الجدوى من الكتابة عن تأثيرات الثورة وهي مازالت في تفاعلاتها المختلفة و لم تحط أوزارها بعد ؟

المبدع لا ينتظر الأحداث حتى تنتهي ليكتب عنها، انه يسبق الأحداث أحيانا كما يرافقها أحيانا أخرى ويحدث أن إليها في شكل ماض قد يكون بعيد أو قريب. في أحداث ما يسمى بالربيع العربي ليست المشكلة في الحدث في ذاته بل المشكلة في كيفية تحويل الحدث إلى فعل إبداعي و القدرة على إلتقاط عناصر الجمال فيه و بث حياة أخرى داخله. لذلك يكتب الكثير في تونس وغيرها عن تفاعلاتهم المختلفة تجاه أحداث عمليا لم تنته بعد لكن هذا يعبر عن ارتباط الكتّاب بلحظة حارقة تعيشها المنطقة العربية ككل والمهم في كل ذلك هو القدرة على تحويل الواقع إلى خيال و تنزيل الخيال إلى مستوى الواقع.

الروائي يبتكر مواضيعه وروايتي حركة إستباقية

بالنسبة لروايتك الملائكة لا تطير، اشتغلت على تيمة ختان البنات ما الذي يضيفه ذلك للمشهد التونسي و العربي؟

” ختان البنات ” من المواضيع الطابو التي لم يتجاسر أحد على الكتابة عنها في الوطن العربي، حدث مرات قليلة جدا ان وقعت الإشارة العابرة له. لذلك أنا أتجرأ على هذا الطابو وأفجّر بنية التفكير السلفي الذي أصبح ظاهرة إجتماعية وسعيت أن أمنح كل شخصية صوتها للتعبير بحرية عن معاناتها، ثم لا يجب ان لا يكون ختان البنات غير موجود في تونس حتى أتجنبه، الكاتب لا يجب أن يقتصر على مواضيع بعينها موجودة في الواقع الذي يعيشه بل هو يبتكر مواضيعه ويجعل تناوله لها مقنعا واقعيا. كتّاب كثر تحدثوا عن جرائم أو حروب أو معارك لم يعيشوها و لم تحدث فعلا. بالنسبة لروايتي شرارة هذا الموضوع انطلقت عندما زار الداعية المصري وجدي غُنيم تونس زمن حكم الترويكا بقيادة حزب النهضة الإسلامي وقد أثارت هذه الزيارة لغطا شديدا في تونس ولأول مرة  ينتشر جدلا حول ختان البنات التي كان غنيم من المدافعين عنه، فوجئت عندما رأيت شق من التونسيين السلفيين يبررون ختان البنات، حتى ان بعض القياديين الإخوان في تونس اعتبره عملية تجميلية، لذلك كانت صدمتي شديدة و لأني اعتبر أن من يبرره اليوم قد ينادي به غدا لذلك كتبت  هذه الرواية كحركة استباقية لذلك قمت بالحفر في هذه التيمة وبحثت في التفاصيل النفسية والاجتماعية لها واجتهدت أن أقدم عملا إبداعيا استغرق مني الكثير من الوقت لأقرأ حول الموضوع و أبحث فيه من مختلف الجوانب. رافقتني هذه الرواية أكثر من خمس سنوات أعدت فيها كتابتها مرات عديدة.

ما الذي يشغل الكاتبة فاطمة بن محمود الآن ؟

بل قل ما الذي لا يشغلني، لأني أجد العالم على حافة المجهول والمنطقة العربية في حالة من الوهن و العجز الذي لم يسبق لها مثيلا في تاريخه وهو ما يجعله من جهة ضحية أنظمة استبدادية فاشلة ومن جهة أخرى موضوع لأطماع خارجية تنهب ثرواته و ثوراته. مشغولة أيضا بهواجسي الأدبية وأخشى أن ينتهي العمر ولا أحقق ما أحلم به.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى