هل ما زالت المدرسة مهمة* لمياء المقدم
النشرة الدولية –
الحياة دروس مستمرة، وفي ظني أنها لن تتوقف أبدا عن تعليمنا أشياء جديدة حتى لحظة مماتنا. المهم أن ننفتح على دروسها، نستوعبها، ونتقن استغلالها جيدا.
نعلم أبناءنا الكثير، لكننا نتعلم منهم أيضا. طوال حياتي اعتقدت أن المدرسة، النتائج والأداء، أهم شيء في حياة الطفل. ربما بسبب التربية التي تربينا عليها والمكانة التي كان يوليها آباؤنا للتعليم في مجتمع ينهض من تبعية الاستعمار والفقر والتهميش. المدرسة كانت المنقذ الوحيد من كل ذلك، وفرصة الفقير والمهمش في أن يتساوى ابنه بابن الثريّ والوجيه.
أراد آباؤنا أن نصبح أطباء ومهندسين وصحافيين ومدراء لنسحبهم معنا من بؤرة الفقر ونشدهم إلى أعلى ونحسّن من وضعهم الاجتماعي ومكانتهم بين الناس. علّقوا آمالا على ذلك، صرفوا كل ما لديهم، ضحّوا وسهروا وباعوا ممتلكاتهم ومصاغهم من أجل هذا الهدف السامي. المدرسة، المدرسة ولا شيء غيرها، هي المنقذ وهي المستقبل وهي الرفاهية وهي المكانة الاجتماعية المرموقة، وهي الأسرة المرفهة، وهي الوجاهة… إلى آخر القائمة الطويلة.
أما نحن الأبناء فقد كنا نشبه الجنود المقاتلين في معركة حياة أو موت. نصحو باكرًا، نقطع المسافات الطويلة في البرد والثلج والجبال، أحيانا بملابس خفيفة وبأحذية لا تكاد تردّ عنا أذى البرد وأحراش الطريق، نسهر الليل للمطالعة ومراجعة الدروس على ضوء الشموع والفوانيس، ننحني على الأرض أو على موائد واطئة نقرأ في كتب مهترئة حتى تقوست ظهورنا من شدة التركيز. كنا نعرف جيدا الآمال المعلقة على رقابنا، ونعي حجم المسؤولية التي أوكلت لنا وكنا نرزح تحتها من دون رحمة. لم نكن بصدد تحقيق أحلامنا فقط، بل أحلام جيل كامل من الآباء والأمهات الذين لم تسمح لهم ظروف الاستعمار والفقر من متابعة تعليمهم.
كانت المدرسة شيئا مقدسًا، عظيمًا، نبيلًا تكتب فيه الأشعار ويتغنى به المغنون.
واليوم؟ هل مازالت المدرسة بنفس القداسة التي كانت عليها؟
لا شك أن التعليم والمعرفة قيمتان لا يعلى عليهما في كل الأزمنة والعصور وتحت أيّ ظروف، لكن المجتمعات تغيرت، والاحتياجات كذلك، ولم تعد المعرفة مقصورة على المدارس فقط، بل إن نسبة المعرفة المتحصل عليها من المدارس لا تتجاوز الـ2 بالمئة من مجمل المعارف التي يتلقاها الطفل في صغره. الباقي تتكفل به الأسرة، المجتمع، الأصدقاء الأنشطة والألعاب.
منذ سنة تقريبا، دخلت في تجربة فريدة، أو لنقل هو درس جديد من دروس الحياة الكثيرة. ابني الصغير لا يحب المدرسة! يعتبر هذا كارثة حقيقية بالنسبة إلى أمّ تربّت على قداسة المدرسة، يتبعها الكثير من القلق والفزع والتخبط.
ولأننا تربينا على القتال فإن أول ردة فعل هي الاستماتة من أجل تحسين الأداء، وتحصيل أعداد مقبولة. بعد جهد عام كامل أرهق الجميع: الطفل والمدرسة والبيت. صحيح أننا تجاوزنا الأزمة وانتقلنا إلى الصف الموالي، لكن هل هذا المقابل معادل موضوعي للخسارات النفسية والجسدية والقلق والتوتر والمشاحنات التي تسبب فيها على مدى عام كامل؟
جلسات الإرشاد والمختصون يقولون لنا “لا، السعادة قبل كل شيء”. ليس من حق المدرسة أن تجعلنا تعساء رغم أهميتها وليس من حق أيّ شيء في هذا الكون أن يحرم طفلا من لحظات اللهو والمرح والاسترخاء أيّا كانت قيمته، أو يربك أسرة بكاملها ويستنزف طاقتها.
كان صعبا أن أستوعب شيئا كهذا، أنا التي لم أعرف سعادة إلا سعادة النجاح ولم أتربّى إلا على تقديس المدرسة والتضحية بكل شيء من أجلها، لكنني تقبلته. وبدلًا من المعافرة في مدرسة للمتفوقين رضيت بالذهاب إلى مدرسة عادية، المجهود فيها أقل وفسحات المرح واللعب أكثر.
خطوة إلى الخلف من أجل خطوات إلى الأمام. والآن أرى أمامي طفلا أقل قلقا وأكثر استمتاعا بالحياة.
الفشل في المدرسة لا يعني نهاية العالم في مجتمع تتوفر فيه البدائل، ويحترم الفروق والتفاوت بين البشر. الكل يحظى بفرص متقاربة وعادلة، ومن لا يملك طاقة ورغبة لمواصلة الدراسة، لا بد أنه يتوفر على قيمة أخرى في جانب ما. المهندس والطبيب والمدير ليسوا أفضل حالًا ولا أكثر مالا ولا أرقى مكانة من خباز أو نجار أو حداد ناجح يتقن مهنته. جميعهم سواسية في عين المجتمع الذي يحتاجهم كلهم بنفس القدر.