صوت فيروز يحجب قبح الواقع وينتصر للحب والجمال* ميموزا العراوي
النشرة الدولية –
في منتصف التسعينات من القرن الماضي كثر الكلام عن إخراج تمثال الشهداء من وسط بيروت بغية ترميمه من آثار الحرب، أذكر حينها أنني غضبت كثيرا على اعتبار أن التمثال الذي أنجزه فنان إيطالي لم يكتسب هويته اللبنانية، إلاّ حين تعرّض إلى وابل من الرصاص والشظايا أثناء الحرب اللبنانية.
في تلك الفترة من الزمن استقلّيت سيارة أجرة، حاملة معي كاميرا كي ألتقط له صورا في وسط الدمار اعتقادا مني أنني سأحافظ عليه بطريقة سحرية في زمن لم يكن الجوال قد دخل إلى عالمنا بعد.
مرت عدة أشهر ليُتخلّى عن فكرة ترميم التمثال تحت ضغط العديد من الناشطين. أما الصور التي أخذتها فقد بقيت في كبسولة كوداك حتى اليوم. كل مرة يقع نظري عليها في إحدى “جوارير” مكتبي أحملها وأتحسّسها وكأنني أمسك بكبسولة زمن رفض أن يغيب، ولكنه رفض أن يعود أيضا.
عدت إلى هذه الذكرى عندما عثرت على نص في إحدى “البلوغات” لكاتبة ظلت مجهولة عندي حتى اليوم. النص مؤثر جدا، لأنه شكل بالنسبة لي استكمالا لنص كتبته سابقا في مجلة “الجديد” الثقافية تحت عنوان “سيارة من ذهب“.
أما النص الذي اكتشفته، فهو مُعنون بـ”رحلات ميدانية إلى وسط بيروت” تسرد فيه الكاتبة ذكرياتها حين ذهبت في سيارة والدها “التويوتا” الحمراء إلى وسط بيروت بعد انتهاء الحرب اللبنانية.
تختلف عني هذه الكاتبة، لأنها كانت في العاشرة من عمرها آنذاك، أما أنا فكنت في منتصف العشرينات من عمري. ولكن ما جمع بيننا نص صادق أعدنا فيه قراءة ما اختبرناه خلال وبعد الحرب وما تميزت به هذه الفترة من إخماد للذاكرة اللبنانية والتآمر على هوية بيروت التي تلت هذا الإخماد.
تقول الكاتبة “ترجع أولى ذكرياتي لوسط البلد إلى أيام انتهاء الحرب الأهلية.. أتذكر هذه الأيام بقلق ثقيل، كأن شيئا مهما كالحياة قد انتهى، وحل مكانه غموض وترقّب ينذر بالانفجار. لم يزرني القلق خلال الحرب الأهلية، فقد ولدت فيها وخبرت الحياة من خلالها. لكنني اصطدمت به عند انتهائها وبقي معي سنينا عديدة، ولربما لا يزال.”
وتضيف “الزيارة الأولى لوسط البلد كانت في سيارة ‘تويوتا’ حمراء صغيرة.. بدت البنايات لي.. يخترقها نور الشمس من كثرة الثقوب التي خلفتها الأسلحة والحرب، كان والدي يحاول بصعوبة أن يعرّفنا على ‘البلد’.. عند رجوعنا إلى البيت، أذكر أني لمحت غرافيتي يغطي بنايات بحالها، هذا الغرافيتي كان موضع نقاش آنذاك، لأن ‘إعادة اعمار البلد’ ستمحيه من الوجود.”
ثورة 17 أكتوبر أتت ثورة على موت الذاكرة وثورة على مجرمي الحرب وتلاميذهم. فكيف لا نكون حريصين على هكذا ثورة؟
المرة الثانية التي زارت فيها الكاتبة وسط البلد كانت ضمن رحلة ميدانية مدرسية، أمر فائق الأهمية استطاعت أن تراه بوضوح، قائلة “ارتبطت هذه الرحلات الميدانية برؤيتنا للوسط كمنطقة تراثية غير سكانية.. الرحلة الميدانية لم يكن هدفها تثقيقنا عمّا حصل في الحرب الأهلية، أو عن الدمار الشاسع الذي حل وعن الثقوب التي اخترقت كل المنشآت. كان هدفها تعليمنا كيف نرى ونتصوّر ونصوّر ونتذكّر وسط البلد وكيف ألّا نراه. الآن، فقط الآن، أدركت مدى أيديولوجية هذه الرحلة.”
أما النص الذي كتبته بدوري عن مروري في منطقة وسط بيروت أثناء الحرب فأعتبره تمهيدا مهولا لنص الكاتبة الأصغر مني سنا، إذ تحدّثت فيه عن كيفية تحوّل الأمكنة إلى كوابيس مدينيّة لم يعمل أمراء الحرب لاحقا، إلاّ على تكريسها في ظل غيبوبة جماعية لا يزال يعيشها جيل الحرب والجيل الذي ولد خلالها على السواء.
ممّا قلت في النص “عندما كنا صغارا أنا وإخوتي، كان والدي يملك سيارة ذهبية اللون.. كانت تتوسّط مقود السيارة حلقة زرقاء اللون شفّافة. كان يقول لنا عنها بأنها عين جنيّ السيارة.. ‘العين’ هذه قد أوعزت في يوم من الأيام إلى والدي أن يصرخ طالبا منّي بأن أدير وجهي بعيدا عن نافذة السيارة، رأيت يومها رأسا بشرية تنزف فوق تلة صغيرة من ثلج وضعها أحدهم على مقدمة سيارته.”
وكتبت أيضا “لكن الاختبار الأقصى كان يوم السبت الأسود حين انتشر الذبح على الهوية. وقتها عبرنا خط التماس هربا من الأشرفية باتجاه منزلنا في ‘بيروت الغربية’.. أدار والدي شريطا لفيروز كنا نسمعه عادة في السيارة، ثم بدأ يرفع من مستوى الصوت المُسجل شيئا فشيئا، وكلما كانت تنتهي الأغنية كان أخي الذي لم يكن يبلغ وقتها أكثر من ست سنوات يقول ‘أعيديها ماما!’. كانت ‘الماما’ تعيدها لتطغى على صوت أزيز الرصاص.
وصلنا بعد ذلك إلى حاجز طيار فبدأت أمي تصرخ ‘لا تقف. لا تقف!’. وأضفت فيروز يعلو صوتها.. ووالدي ينظر إلينا مُطمئنا.. توقفت السيارة. قال له أحد الأشخاص، وكان مُسلحا: انزلوا من السيارة. نظرت إلى والدتي التي لم يصدر منها صوت واحد. كانت الدموع تنهمر من عينيها.. رفض والدي، وقال لهم ‘لن ينزل أحد. خذني إذا أردت!’. أذكر أن أحدا منهم طلب منه هويته وسأله عن مهنته. أجاب والدي إنه مخرج جريدة النهار. لا أدري حينها إذا كان عمله في هذه الجريدة قد غيّر من رأي المُسلح. لكنه أدخل رأسه إلى السيارة. رمقنا بعدة نظرات ثم رمى أوراق الوالد في السيارة وطلب منه أن يغادر ‘ما تخليني شوف وجّك هون’”.
أفلح يومها صوت فيروز بكمَ صوت الواقع المر إلى أن انطلقت الثورة مؤخرا في كل لبنان لتقيم وتقعد الدنيا مخرجة كل العفن وروائحه الموبوءة إلى العلن. وجاء هذا الصراخ الفاجع، مُبلسما في بضعة كلمات صاخبة “ثورة. ثورة. ثورة”، ثورة على موت الذاكرة وثورة على مجرمي الحرب وتلاميذهم. فكيف لا نكون حريصين على هكذا ثورة؟
العرب الدولية