حملة لبنانية لإجبار المصارف الإفراج عن أموال المودعين* سوسن مهنا

النشرة الدولية –

يودّع اللبناني عام 2019، مواجهاً أزمات وهموم متلاحقة، إضافة إلى صعوبات معيشية كثيرة لم يعهدها من قبل حتى إبان الحرب الأهلية.

ابتكار قيود

في المقابل، تُبدع المصارف اللبنانية في ابتكار قيود وعقبات كي لا تمكن المواطن من الحصول على أمواله الخاصة، حيث كشفت انتفاضة 17 أكتوبر (تشرين الأول) الهوة ما بين المصرف والمودع، ما أدى إلى فقدان الثقة بالنظام المصرفي الحالي.

وانتشرت معلومات عن عمليات تهريب أموال يقوم بها بعض النافذين وحتى المصرفيين إلى سويسرا وغيرها من البلدان التي تتمتع بسرية مصرفية.

صفوف المواطنين الطويلة أمام المصارف باتت عادة يومية، إذ لا يمكن سحب الدولار عبر ATM كما أن سقف السحب الأسبوعي انخفض من 500 دولار إلى 200 وفي بعض المصارف إلى 100.

ويعني ذلك أن استمرار انخفاض سقف السحوبات، قد يصل إلى مرحلة تمنّع المصارف عن السماح بسحب أي دولار.

حتى الحسابات بالعملة اللبنانية والرواتب الموطنة لا يستطيع صاحبها سحبها بالكامل، فهناك قيود وسقوف تبعاً لسياسة كل مصرف، ويترافق كل ذلك مع النفي الدائم لجمعية المصارف وحاكم مصرف لبنان بأنه يجري تطبيق نظام الكابيتال كونترول.

حملة “مش دافعين”

في سياق متصل، شهدت مصارف في مختلف المناطق اللبنانية حالات شجار وصلت إلى التشابك بالأيدي، بينما انتشر مقطع فيديو لمواطن لبناني حضر إلى المصرف وهو يحمل فأساً مهدداً بها إذا لم يحصل على أمواله.

ويبرز هنا سؤال: كيف يتصرف المواطن المتوجب عليه تسديد دفعات شهرية؟ انطلقت حملة “مش دافعين” الرافضة للسياسة المالية المتبعة من قبل مصرف لبنان، وهي حملة أطلقها ناشطون، لحث المواطنين على عدم تسديد أقساط قروض المصارف، وصولاً إلى العصيان المدني وعدم دفع الضرائب والفواتير المتوجبة للدولة.

وكانت مجموعات الحراك قد دعت إلى وقفة احتجاجية أمام مصرف لبنان المركزي على أن تشارك بقية المناطق اللبنانية في وقفات مماثلة، للإفراج عن أموال صغار المودعين التي ترفض المصارف الإفراج عنها.

كما طالبت هذه التحركات منع تهريب أموال كبار المودعين إلى الخارج والإعلان عن أسماء السياسيين والنافذين الذين تمكنوا من تهريب جزء أو كل حساباتهم إلى الخارج ومحاسبتهم.

الفائدة التراكمية

ويقول المصرفي المتقاعد، دان قزي لـ “اندبندنت عربية”، إن “ما يحصل حالياً في المصارف غير قانوني، إذ لا يمكن لأي بنك في العالم الحجز على أموال موديعه، من الواضح أن عمليّات الهندسات المالية سمحت للمصارف بالحصول على أرباح طائلة، عبر معدّلات فائدة عالية سددها البنك المركزي ووصلت في بعض الأحيان إلى 40 في المئة. وتقاسمتها المصارف مع كبار المودعين، أي العملاء الأكثر ثراءً، وهم حوالى ثلاثة من أصل كلّ ألف مودع، استفادوا من معدّلات فائدة فاحشة تصل إلى 30 في المئة. وطبعاً، لا يوجد أي مبرر لتحميل دافعي الضرائب اللبنانيين هذه المعدّلات العالية جدّاً من الفائدة”.

ولشرح الفكرة بطريقة مفهومة أكثر، يوضح “على سبيل المثال، من أودع عشرة ملايين دولار قبل عشر سنوات وحصل على فائدة بمعدل 12 في المئة، بات يمتلك اليوم 31 مليون دولار نتيجة الفائدة التراكمية. وبالتالي، إخضاع حسابه الحالي لعملية الـ Haircut بنسبة 50 في المئة سيقلص قيمة وديعته إلى حوالى 16 مليون دولار، وهو ما كان سيحصل عليه فيما لو كان مستفيداً من معدّل فائدة يراوح خمسة في المئة على مدى السنوات العشر الماضية، وهذا المعدل لا يزال، بكل الأحوال، مساوياً أو أعلى من معدّلات الفائدة العالمية. أما الذين لا يحبذون أي إجراء مماثل، فليستيقظوا من سُباتهم، لأن الإجراءات الإصلاحية لا مفر منها، خصوصاً أن الودائع باتت مجرد حسابات رقمية، والأموال المجاهر بها أصبحت في مهبّ الريح”.

الهندسة المالية

ولدى سؤالنا عن معنى “الهندسة المالية”؟ يجيب قزي “تعمل البنوك اللبنانية على إغراء المغتربين بفائدة تصل إلى 15 في المئة لجذب ودائعهم، ومن ثم تحول هذه الودائع إلى البنك المركزي في مقابل فائدة تصل إلى 21 في المئة. ويطلق على هذه العملية البسيطة اسم تقني معقد “هندسة مالية”.

ويضيف “يحوّل اللبنانيون رواتبهم بالليرة إلى دولارات تصرف في رحلات سياحية إلى الخارج، وعلى شراء الماركات الأجنبية والأجهزة المستوردة (نستورد حوالى 20 مليار دولار في السنة)، وكل ذلك يستهلك من موجودات مصرف لبنان بالعملات الأجنبية، والتي هي أساساً مدخرات اللبنانيين في الخارج والداخل. في الوقت نفسه، يظن المودعون أن أموالهم آمنة وباستثمار عبقري ينتج أرباحاً بنسبة 15 في المئة، إلّا أنه شبه “مخطط هرمي”، أي أن المستثمر القديم يدفع لهُ من أموال المستثمر الجديد. وعندما لا تتدفّق أموال كافية جديدة أو طازجة كما تسمى في القطاع المصرفي، يجري استهلاك المبالغ الرئيسية، فكيف سيسترد المودعون أموالهم بالدولار ما دام المصرف المركزي لا يملك مطبعة دولار؟”.

أما بالنسبة إلى حملة الحراك “مش دافعين” يقول قزي، “ما يحصل له ايجابيات وسلبيات، إذ ان التمنع عن الدفع سينعكس تدهوراً اقتصادياً أسرع، وخصوصاً على المواطن الحلقة الأضعف في هذه الدوامة، لذا من الأفضل أن تبادر الدولة لاعتماد نظام الكابيتال كونترول بطريقة قانونية، لتمنع المصارف من التصرف حسب السياسة الداخلية لكل منها. أما الناحية الإيجابية فإن ما يحصل من شأنه أن يزيد الضغط على المصارف والدولة معاً ليبادروا إلى قوننة ما يحصل وبالتالي التخفيف من جزع المواطن واستعادة ثقته بالبنوك، أما إذا ما استمرت المصارف في تماديها بالتعاطي بهذه الطريقة أي خفض السحوبات بالدولار، فإننا قادمون على مرحلة صفر دولار باليوم وبالتالي إجبار المواطن على سحب أمواله بالليرة اللبنانية وبسعر للدولار حسب السعر الرسمي، ما يعني خسارات متتالية”.

ولكن هل ظهرت هذه الأزمات كلها من بعد الانتفاضة اللبنانية؟

يجيب قزي، “لم تظهر من بعد الانتفاضة. بل ان الانتفاضة أضاءت على مساوئ النظام الاقتصادي والمصرفي، الذي هو اقتصاد ريعي، والانتفاضة النجمة المضيئة التي كشفت مكامن الخلل والمحاصصة في نظام فاسد”.

في سياق متصل، يقول المحامي واصف الحركة وهو من أحد مطلقي هذه الحملة، في حديث إعلامي، “فكرة “مش دافعين” بدأت من الناس التي ليس بمقدورها الدفع وعدد هؤلاء الناس كبير جداً، سواء بالنسبة إلى القروض أو الضرائب. والكل يعلم أن أزمة التعثر وعدم الدفع بدأت قبل 17 أكتوبر. وحدّدت الحملة كي لا تكون مطلقة، بثلاث مسائل أساسية. لأن الأزمة ناتجة عن تقصير الدولة، إذ لم تؤمن السكن فاضطرت الناس لتتدين بفوائد عالية لتأمين مسكن، ولأن الدولة لم تؤمن نقلاً مشتركاً اضطرت الناس إلى الاقتراض لشراء سيارات، ولأن الدولة لم تؤمن تعليماً رسمياً جيداً، اضطرت الناس للجوء إلى قروض شخصية Personal Loans” لتعليم أبنائها.

لكن ماذا عن الناحية القانونية للحملة، بما أن المواطن المدين قد وقع على عقود جزائية؟

يقول الحركة، “ناقشنا الموضوع اجتماعياً وقانونياً. ونحن نعلم أن كل الناس التي توجهت إلى المصارف للحصول على قروض شخصية وقعت على عقود هي أشبه بعقود إذعان. الناس كانت محتاجة وغير قادرة على أن تعدل أية مادة من مواد العقود أو أي شرط من شروط العقد فقبلت به على مضض. ومن المعروف أنه في حالات الأزمات المشابهة للأزمة الحالية، مثلاً التجربة اليونانية أو الإسبانية أو الإيطالية، فيما يتعلق بهذه الأنواع من القروض، صحيح أنه توجد قوانين تنظم هذه الحالات، لكن الذي يعلو على القانون هي القيم الدستورية والقيم الأخلاقية وشرعة حقوق الإنسان. من هذا المنطلق، عندما لا أستطيع أن أحقق ما أصبو إليه بالقانون ألجأ إلى هذه القيم الإنسانية والدستورية التي تحمي الناس”.

ويضيف “صحيح أن الأزمة التي نمر بها ليست قوة قاهرة، لكن نتائجها هي مثل الحرب الكبيرة والإعصار والزلزال وغيرها بما يحدث مع الناس. ونحن كي نحمي الناس قلنا “فليتضامن القادر مع غير القادر حتى لا يُستفرد بالقادر فيما بعد من البنوك. عملنا على مشاريع قوانين معجلة مكررة من مادة واحدة لتحمي الناس. تبدأ من السقف العالي في المطالب، أي إعفاء كلي أو جزئي من القرض، بعد دفع جزء من القرض، وبعد احتساب الفوائد وقيمة أصل الدين هل استرجع ام لا. وعلى أساسه يحدد كما حصل في إسبانيا واليونان، حيث أعفي المواطنون. فمن دفع 60 في المئة إلى 70 في المئة أعفي من الفترة المكملة”.

كما عملت الحملة على “مشروع قانون معجل مكرر، والإعفاء من كامل الفوائد بعد دفع 50 في المئة من القرض أو مرور 50 في المئة من الوقت ليسترجع فقط أصل الدين”.

كما تحاول الحملة “تخفيض الفوائد إلى اثنين في المئة فيما خص قروض التعليم والسكن والنقل”، مع نص قانون تمديد للمهل وجدولة الديون من دون ترتيب فوائد، حيث تبدأ إعادة الدفع من جديد في صيف 2020 وهذا أتى بناءً ونتيجة لدراسات اقتصادية كثيرة.

نقلاً عن “اندبندنت عربية”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى