علياء المبيّض: لبنان بصلب الإنهيار..وأنصاف الحلول لن تجدي

المدن – عزة الحاج حسن – أمام حال التخبّط التي تسيطر على السلطة السياسية، وفي ظل محاولاتها الخجولة و”المُخجلة” لتشكيل الحكومة تمهيداً للإنطلاق بلملمة “الخراب” الذي خلّفته السياسات الإقتصادية العقيمة، والندوب التي أحدثها الفساد.. بات لزاماً على خبراء الإقتصاد “غير المتحزّبين والمصطفين سياسياً وطائفياً” أن يصارحوا الرأي العام بالحجم الحقيقي للأزمة، وبإمكانات الحلول فيما لو تواجدت، لعلّ سواد الأرقام وهَول الحقيقة يشكّل صفعة على وجه السلطة، فيوقظها من سباتها الناجم عن جهلها لمفاعيل الانهيار الإقتصادي.

ولأن الانهيار الإقتصادي أصبح واقعاً، بات إعلان حالة طوارىء اقتصادية من قبل الحكومة المقبلة، والتفرّغ  للعمل على أكثر من جبهة للإنقاذ أمراً ملحّاً، وفق الخبيرة الإقتصادية علياء المبيّض، يكاد يكون أبرزها إعادة هيكلة ديون لبنان، وإعادة رسملة وهيكلة القطاع المصرفي، إلى جانب العديد من الإصلاحات الكفيلة باستعادة ثقة اللبنانيين والخارج. لكن يبقى الأهم وفق الخبيرة الإقتصادية، وهي كبيرة الاقتصاديين للشرق الأوسط لدى مصرف جفريز انترناشيونال، والمتمرسة بالعمل الاقتصادي بين المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية ومصرف باركليز والبنك الدولي في واشنطن وصندوق التنمية الإقتصادية والاجتماعية ومصرف لبنان، أن يتم تطبيق البرنامج المتكامل من الإصلاحات بزخم استثنائي وجدية مطلقة والإستعانة بكفاءات عالية جداً.

وللإطلاع عن كثب على واقع الأزمة الحالية وكيفية الخروج منها، كان لـ”المدن” مع المبيّض هذا الحوار:

1- كيف يمكن للاقتصاد اللبناني استعادة ثقة المجتمع الدولي مجدّداً؟

الاقتصاد اللبناني بحاجة ماسة لاستعادة ثقة اللبنانيين أولاً، أينما كانوا في الداخل أو في الإغتراب، كمدخل لاستعادة ثقة المجتمع الدولي. فبعد الإخفاقات المتكررة للحكومات المنصرمة في معالجة الإختلالات الماكرو-اقتصادية المزمنة والدين المتراكم وعجز الكهرباء، واستشراء الفساد، فقدت الدولة اللبنانية مصداقيتها تجاه اللبنانيين والمجتمع الدولي على حد سواء، إن على صعيد المانحين أو الأسواق المالية. فهذه الإخفاقات المتتالية أوصلت لبنان لوضع خطير جداً حيث يواجه اليوم عدة أزمات متزامنة، على مستوى ميزان المدفوعات، أزمة مالية ومصرفية، وأزمة نقدية تنعكس انكماشاً حاداً في الاقتصاد الحقيقي، مما يتطلب خفض الدين العام ومعالجة خسائر مصرف لبنان المتراكمة، وضخ حجم كبير من السيولة.

 

استعادة الثقة تتطلب المبادرة فوراً لمصارحة الناس بحجم الأزمة، والشروع فوراً بوقف النزيف الحاصل عبر تطبيق برنامج متكامل من الإصلاحات يهدف إلى الإستقرار والنهوض الاقتصادي والاجتماعي، على أن يتم تطبيقه بزخم استثنائي وجدية مطلقة، وتمكين فريق عمل ذات كفاءة عالية جدا ليقوم بذلك. لا أظن أن الأمر سيكون بهذه السهولة، لكن ليس ذلك بالأمرالمستحيل. ولذا، يجب علينا الإنكباب على العمل وعدم تفويت الفرصة لاستعادة ثقة اللبنانيين بالاقتصاد اللبناني.

 

2- ما هي برأيك المقاربات التي من شأنها مواجهة الأزمة الإقتصادية المالية والنقدية في لبنان؟

أي مقاربة لمواجهة الأزمة الحالية عليها برأيي أن تنطلق من مبدأ أن المخاطر الاقتصادية والمالية والنقدية المحدقة بلبنان اليوم تتهدد أمنه القومي، نظراً للتداعيات الأمنية لتأزم الأوضاع. وبالتالي فيجب الإبتعاد عن سياسة تضميد الجروح، وأنصاف الحلول التي يمكن أن تبقينا لسنوات أو عقود طويلة في حالة من الاهتراء والموت البطيء، التي تضعف امكانياتنا للنمو الاقتصادي في المستقبل.

 

فلبنان، وفقاً للتقديرات المتداولة، قد يحتاج على مدى السنوات الثلاثة المقبلة إلى ما لا يقل عن 50 مليار دولار، لسد حاجاته التمويلية، بما فيها كلفة تقويم الوضعية السلبية بالعملات الأجنبية لمصرف لبنان، لرسملة القطاع المصرفي بعد إعادة هيكلة الدين، بشكل يضع الأخيرعلى مسار مستدام، ولرفد الاقتصاد بالسيولة اللازمة لتمويل النمو. هذا رقم كبير جداً. ولذلك، تتطلب المرحلة المقبلة مقاربات استراتيجية للأزمة الاقتصادية، تكون شاملة ولا تغفل الأبعاد الاجتماعية والأمنية للتقهقر المالي والاقتصادي من جهة، وتتعاطى مع المجتمع الدولي لبناء شراكة نوعية لمساعدة لبنان، آخذة بعين الاعتبار الواقع الجيوسياسي والتغيرات الإقليمية والدولية من جهة أخرى.

 

3- ما هي الإصلاحات الأساسية التي على الحكومة المقبلة أن تضعها في سلم أولوياتها؟

من الأهمية بمكان أن تعلن الحكومة المقبلة حالة طوارىء اقتصادية فوراً، وأن تعمل على مستويين إثنين:

 

المستوى الأول:وقف النزيف. وذلك عبر (1) قوننة القيود على رأس المال بشكل أن تكون شاملة (comprehensive) وغير استنسابية، ويتم تطبيقها بصرامة شديدة وعبر آلية شفافة، (2) حماية الإحتياطي المتبقي من العملات الأجنبية وإدارته بطريقة استراتيجية وفق أولويات تدعم القطاعات المصدرة، أو التي توظف عدداً كبيراً من المواطنين أي بشكل يسمح بالتخفيف من حدّة الأزمة قدرالإمكان، (3) إنشاء خلية إدارة الأزمة من ذوي الكفاءة ملمين بالواقع اللبناني ولديهم الخبرة في التعاطي مع المؤسسات الدولية والأسواق المالية، و(4) فتح قنوات الاتصال مع المجتمع الدولي لتأمين تمويل استثنائي لرفد القطاع الخاص بالسيولة، والحد من إفلاس الشركات وخسارة الوظائف للبنانيين واللبنانيات، وذلك بالتوازي مع بدء تطبيق الإصلاحات.

 

أما المستوى الثاني فهو -التصحيح وإعادة الهيكلة- عبر تنفيذ برنامج متكامل للاستقرار والنهوض الإقتصادي والاجتماعي يسمح باستعادة النمو وخلق الوظائف بدل تدبيرها، تكون ركائزه التالية:

 

  1. تحقيق فوائض أولية سنوية في الموازنة على مدى ثلاث إلى خمس سنوات عبر مجموعة من الإجراءات تهدف الى ترشيد الإنفاق وزيادة فعاليته ولاسيما خفض الدعم الى مؤسسة كهرباء لبنان وإعادة هيكلة القطاع العام، وزيادة الإيرادات عبر وقف التهرب الضريبي وسياسات ضريبية أكثر عدالة تشجع النشاطات الانتاجية وليس الريع.

 

  1. إعادة هيكلة شاملة للدين بما يشمل معالجة الوضعية السلبية لمصرف لبنان بالعملات الأجنبية، لتستهدف مستوى دين عام إجمالي يناهز 60-70 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي بنهاية هذا العقد، وبشكل يحمل الأعباء بشكل عادل لمساهمي المصارف وكبار المودعين ويحمي صغار المودعين.

 

  1. إعادة رسملة وهيكلة للقطاع المصرفي لكي يكون (بميزانيته النظيفة وحجمه المناسب الجديد) رافعة لإعادة تمويل القطاعات الإنتاجية ولاستعادة النمو الاقتصادي.

 

  1. توسيع شبكة الأمان الإجتماعي وتحسين استهدافها للمتضررين من الأزمة، بهدف التقليل من حدة زيادة الفقر والتسرب المدرسي الذي سينجم عن التضخم وزيادة العاطلين عن العمل.

 

  1. رفد مؤسسات القطاع الخاص بالتمويل الضروري لاستمرارها، وإعادة هيكلة الاقتصاد لتطوير قطاعات جديدة وذات قيمة مضافة عالية بعيداً عن النموذج القائم.

 

  1. استعجال الإصلاحات الهيكلية والمؤسسية الهادفة لتحسين بيئة الأعمال وزيادة القطاعات الإنتاجية (قوانين استقلالية القضاء، الشراء العام، المنافسة…)

 

  1. مراجعة جدوى السياسة النقدية والحالية لسعر الصرف بعد تطبيق الإصلاحات أعلاه.

 

من الأهمية بمكان أن تعمل الحكومة المقبلة بشكل سريع وموازي على هذين المستويين وإعداد تصور وطني للحل (Homegrown solution) لتأمين الدعم الدولي وفقا لأفضل الشروط. فكل يوم تأخير يزيد الأعباء والمخاطر ويراكم الخسائر. لذا، من الضروري البدء بمحاكاة المؤسسات المالية الدولية والإقليمية والمانحين الدوليين لاطلاعهم على نية الحكومة بالاصلاح الشامل وتطبيق سريع لبعض منها، كخطوة اولى لإعادة بناء الثقة وصياغة إطار جديد للشراكة معها.

 

أمام حال التخبّط التي تسيطر على السلطة السياسية، وفي ظل محاولاتها الخجولة و”المُخجلة” لتشكيل الحكومة تمهيداً للإنطلاق بلملمة “الخراب” الذي خلّفته السياسات الإقتصادية العقيمة، والندوب التي أحدثها الفساد.. بات لزاماً على خبراء الإقتصاد “غير المتحزّبين والمصطفين سياسياً وطائفياً” أن يصارحوا الرأي العام بالحجم الحقيقي للأزمة، وبإمكانات الحلول فيما لو تواجدت، لعلّ سواد الأرقام وهَول الحقيقة يشكّل صفعة على وجه السلطة، فيوقظها من سباتها الناجم عن جهلها لمفاعيل الانهيار الإقتصادي.

 

وللإطلاع عن كثب على واقع الأزمة الحالية وكيفية الخروج منها، كان لـ”المدن” مع المبيّض هذا الحوار، في جزئه الثاني والأخير:

 

4- هل ترين أنه بإمكان القطاع المصرفي النهوض من جديد بالمدى المنظور؟ وما هي محفّزات نهوضه؟

القطاع المصرفي يحتاج إلى ثورة على الذات. فهو يواجه إحدى أخطر المراحل في تاريخه نظراً لفقدان الثقة بينه وبين المواطن/المودع من جهة، وللتهالك السريع لقيمة موجوداته، لاسيما القيمة السوقية لسندات اليوروبوند وقدرة الدولة اللبنانبة على دفع ديونها، أو لتزايد تعثر القروض نظراً للإنكماش الإقتصادي من جهة أخرى كما جرى في اليونان وقبرص في خضم أزمتهما. إلا أنه لا يمكن لأي اقتصاد أن يستعيد عافيته من دون قطاع مصرفي لديه السيولة والملاءة ووفقا لمبادىءالحوكمة الرشيدة التي تسمح باستعادة الثقة، لذلك لا بد من تنقية ميزانية المصارف وإعادة رسملتها، بالتوازي مع إعادة هيكلة الدين العام ومعالجة تشابك ميزانيته مع ميزانية مصرف لبنان. كذلك لجهة تصغير حجم القطاع ودمج بعض المصارف، ليتلاءم مع ضرورة دعم النمو والقطاعات المنتجة، بعيداً عن نموذج تمويل الاقتصاد السائد في السنوات الماضية، ألا وهو اقتصاد الريع. ومن الضروري أن نضع آلية لإعادة هيكلة الديون وإعادة رسملة المصارف وفق مبدأ “التوزيع العادل للأعباء” وحماية صغار المودعين وإدارة ذلك بشكل يمكن أن تستقطب استثمارات لتوجيهها نحو القطاع بحجمه وحلته الجديدة.

 

لذا، فإن نهوض القطاع المصرفي يتوقف على تطبيق البرنامج المتكامل للاستقرار، والنهوض الاقتصادي بأسرع وقت ممكن، كما قلت سابقاً (سؤال رقم 3 في الجزء الأول من المقابلة)، واستعادة مصرف لبنان للدور الناظم، واعتماد مبدأ الحوكمة الرشيدة للقطاع.

 

5-هل ترين أن هناك ضرورة قصوى لتدخل صندوق النقد الدولي بشكل مباشر في حل الأزمة المالية القائمة في لبنان؟

لبنان لديه شراكة قائمة مع صندوق النقد الدولي ومن الضروري بمكان الاستعانة بالخبرات المتواجدة لديه، للاطلاع على اقتراحاتهم للخروج من الأزمة وتحديد الأولويات. إلا أنني وقبل اللجوء إلى الصندوق، أشدد على ضرورة أن يقوم اللبنانيون أولاً بتشخيص موضوعي وشفاف لحجم الخسائر، ومصارحة بعضهم البعض بذلك، كمدخل لاستعادة الثقة بمؤسسات الدولة المسؤولة عن إدارة الاقتصاد. وعليهم صياغة برنامج متكامل للاستقرار والنهوض الاقتصادي والاجتماعي، كما تحدثنا أعلاه. فهذا الجهد الوطني، الذي على أساسه تحدد أولويات ومرحلية برنامج الإصلاح، يعزز من موقف لبنان وقدرته على التعاطي مع الصندوق والمانحين بناءً على هذا التشخيص، والتفاوض على كيفية تطبيق البرنامج وتأمين التمويل، وفقاً لمقتضيات المصلحة الوطنية. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن هذه الشراكة ضرورية لسببين اثنين:

 

أولاً: لشحذ التمويل من جهات مانحة أخرى لاسيما وأن لبنان يحتاج إلى ما لا يقل عن 50 مليار في السنوات الثلاثة المقبلة (تمثل الحاجات التمويلية الخارجية بالإضافة الى كلفة إعادة رسملة المصارف على أثر إعادة هيكلة دين الدولة بما فيها وضعية مصرف لبنان الصافية بالعملات). إلا أن الصندوق قد لا يؤمن أكثر من 15 في المئة منها. كما أن الشراكة مع الصندوق قد تشجع الصناديق الإستثمارية على العودة إلى سوق سندات الدين اللبنانية وفتح الأسواق المالية مجدداً أمامه.

 

ثانياً: لتأمين مساعدة تقنية رفيعة المستوى، باتت الآن غير متوفرة داخل مؤسسات الدولة، التي أفرغت من الكفاءات بسبب الزبائنية والمحاصصة، والتي لو تواجدت لكان باستطاعتها أن تقود هذه المهمة الصعبة.

 

 

6-هل بات ملحاً على لبنان البحث في هيكلة ديونه؟

إعادة هيكلة ديون لبنان ضرورية. ويجب أن تكون إحدى أولويات وركائز برنامج الاستقرار والنهوض الاقتصادي والاجتماعي لأي حكومة مقبلة، بموازاة قرارات أخرى. فحجم الدين في لبنان كبير جداً ويفوق 160 في المئة من الناتج المحلي اليوم، وهو غير مستدام نظراً لديناميته السلبية، في ظل الانكماش الاقتصادي المتوقع ومستوى الفوائد السائد. وعلى عكس ما شهدناه في تسعينات القرن الماضي، ميزانيات المصارف ومصرف لبنان متهالكة، ولا تستطيع الاستمرار بتمويل العجوزات الخارجية والمالية للبلاد وخدمة الدين من دون خنق الاقتصاد وزيادة الضغوطات على العملة الوطنية. والعالم الخارجي من أسواق ومانحين غير مستعد لمد لبنان بالتمويل، لأنه لا يؤمن بقدرة لبنان على الإيفاء بديونه.

 

لذلك من الضروري اعتماد مقاربة جذرية وشمولية لهيكلة الدين (على عكس ما هو مطروح اليوم)، كمدخل لزيادة الفسحة المالية للاقتصاد، وتوزيع الخسائر، وجعله ديناً مستداماً.  فالاكتفاء بعملية تصفير الفوائد وإعادة جدولة الاستحقاقات فقط، لن يؤدي إلى خفض الدين وإخراج لبنان من حلقته المفرغة. بل سيزيد الأمر تأزماً ويؤجل المشكلة، لأنه سيبقي الدين بحدود 170-180 في المئة من الناتج وسيحمل الأعباء للدولة ولصغار المودعين. وحتى لو أضفنا إلى ذلك إلغاء محفظة مصرف لبنان من الدين بالليرة، فمن المتوقع ان تبقى نسبة الدين إلى الناتج بحدود 130 في المئة، مما لن يغير بالواقع الحالي المتدهور. لذا، من الأهمية بمكان وضع نصب أعيننا استراتيجية لإدارة الدين، تكون إعادة الهيكلة الجذرية والشاملة أولى أولوياتها (بما فيها معالجة الوضعية السلبية بالعملات لمصرف لبنان والمقدرة بأكثر من 30 مليار دولار) بالتزامن مع عملية تخفيض العجز، وتحقيق فوائض أولية لكي نخفف من خطر الانخفاض غير المنظم لسعر الصرف. من دون ذلك، لن يستطيع لبنان العودة إلى الأسواق العالمية وشحذ أي تمويل في المستقبل لحاجاته التنموية.

 

7- ما هو المشهد الاقتصادي الاجتماعي الذي ترينه فيما لو طال أمد الحل السياسي؟

كل يوم يمر من دون تشكيل حكومة يكلف لبنان واقتصاده ومجتمعه خسائر فادحة، وتعميقاً للأزمة. فمن المتوقع ازدياد حدة الانكماش الاقتصادي الذي قد يفوق 15 في المئة في العام 2020، وارتفاع نسبة البطالة وانخفاض إيرادات الدولة. وبالتالي، ارتفاع العجوزات المالية، مما سيؤدي إلى تفاقم المديونية التي قد تصل إلى أكثر من 180 في المئة من الناتج المحلي الاجمالي. هذا ما شهدته العديد من البلدان التي عانت أزمات حادة لميزان المدفوعات بالتوازي مع أزمات مالية ومصرفية، مثل قبرص واليونان وغيرها. ومع توقف التدفقات المالية لتمويل عجوزات لبنان، سيستمر الضغط على الاحتياطات الأجنبية مما سيجبر المركزي على طباعة النقد لسد نفقات الدولة من رواتب وأجور وعجوزاتها المتفاقمة، مما قد ينعكس سلباً على سعر الصرف في السوق الموازي، ويزيد من نسبة التضخم ويهدد بزيادة الفقر. فحسب البنك الدولي، أي زيادة للأسعار تناهز 25 في المئة قد تضع أكثر من 50 في المئة من السكان تحت خط الفقر الرسمي. ولذلك، على الحكومة إعطاء الأولوية لتأمين التمويل اللازم لتوسيع شبكات الأمان الاجتماعي في أقرب وقت ممكن، بالتعاون مع الجهات المانحة.

 

8- ما هي المؤشرات المالية والنقدية التي سبقت الانهيار الحالي (إذا صح التعبير) ولم يتم تداركها من السلطات المالية والنقدية؟

التعبير صحيح فنحن في صلب الانهيار.. وكل المؤشرات المالية والنقدية كانت تشير إلى  مسار انحداري منذ أواخر العام 2015 على الأقل، إن لم نقل منذ العام 2011. فمنذ ذلك الحين والعجوزات المالية والخارجية مستمرة في الإتساع، والنمو إلى ضمور، والاحتياطيات الأجنبية الصافية إلى تآكل مستمر. كذلك، وبالإضافة إلى المؤشرات المحلية، أبدت الأسواق المالية قلقها عن تدهور الأوضاع عبر قيام وكالات التصنيف الائتماني جميعها بخفض تصنيف لبنان مرة بعد مرة، ومن دون أن تقوم الحكومة باتخاذ أي اجراءات كما نرى في بلدان أخرى. فلنأخذ مصر أو تونس أو البحرين على سبيل المثال (لنبقى فقط في منطقتنا العربية). كل بلد من هذه البلدان وصل (وإن بدرجات مختلفة) إلى وضع اقتصادي ومالي متردٍّ، إلا أن حكوماتها قامت باتخاذ تدابير صارمة لتصحيح المسار ووقف الانهيارقبل فوات الأوان. بعضاً منها لجأ إلى صندوق النقد (مصر وتونس)، مع أن مصر قامت بصياغة برنامجها الإصلاحي قبل اللجوء إلى الصندوق، والبعض الآخر كالبحرين مثلاً قدم برنامجاً للتوازن المالي يتم تطبيقه منذ أكثر من سنة لقاء تمويل من شركائهم في بلدان الخليج. أما لبنان فقد استمر بمراكمة الخسائر وزيادة المديونية، من دون أية مساءلة وتصحيح للمسار. كلفة الفشل في إدارة الاقتصاد كبيرة جدا في لبنان، ولا بد من تحميل هذه الخسائر بشكل عادل، إذا ما أردنا حماية السلم الأهلي وإعادة النهوض.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى