مجموعة الشاعرة التونسية لمياء المقدم “في الزمن وخارجه”: سيرة ذات مغتربة ومهشمة* محمد العربي

 

النشرة الدولية –

من مسرحيته “أبواب مغلقة ” التي كتبها جون بول سارتر بين 1943 و1944 ظهرت العبارة الشهيرة “الجحيم هو الآخرون” والتي أراد من خلالها سارتر أن يقول إنه إذا كانت العلاقات مع الآخر ملتوية وفاسدة، إذن فلن يكون الآخر سوى الجحيم. وذلك لأننا في أعماقنا نعتبر دائما الآخرين أهم ما لدينا لنتعرف على ذواتنا. فعندما نفكر في أنفسنا، ونحاول معرفتها، نستخدم في أعماقنا المعلومات التي كونها الآخرون عنّا. وبذلك نحن نصدر أحكاما على ذواتنا بالوسائل التي قدمت لنا من هؤلاء. فمهما كان شعورنا تجاه أنفسنا فإن حكم الاخر يكون جزءا منه. وهذا يعني إذا كانت علاقاتي سيئة سأضع نفسي في تبعية للآخر ومن ثمة بالفعل سأكون في الجحيم.

من خلال هذه الفكرة وهذه العلاقة الملتبسة بالآخر يتنزل ديوان “في الزمن وخارجه” للشاعرة التونسية لمياء المقدم. في 56 نصا تصوّر الشاعرة سيرة ذات مغتربة ومهشمة على مدى الزمن. سيرة تشوبها الانكسارات والخذلان وسوء الفهم. علاقتها الملتبسة بذاتها وبالآخر. تروي شغفها، احتقانها واغترابها الدائم. وتقودنا أحيانا إلى عوالم سريالية ونفسية معقدة.

دائما ما يكون العنوان هو العتبة الأولى التي نقرأ من خلالها عوالم المجموعة الشعرية. وفي هذا الكتاب نتبيّن، منذ البداية، النزعة الوجودية التي ستحملها النصوص. ونتقصى من خلاله صراع الذات مع الزمن، فمنذ القدم إلى الآن مازال سؤال الزمن حاضرا في ذهن الإنسان. وكانت الفلسفة الهندية واليونانية قد شغلت أفكارها مثل هذه الأسئلة: هل الزمن موجود فعلا، وهل يسير في خط مستقيم أم دائري؟ كما يتغير الاحساس بالزمن من شاعر إلى آخر ضمن وعيه الحاد بوجوده وتجربته الإنسانية. وفي هذه المجموعة سيتداخل الزمن بين زمن فيزيائي وزمن نفسي.

ومنذ النصوص الأولى تنكشف علاقة الذات بالآخر قد يكون في شكل نداء:

“من المهم أن تكشف لأحبتك أعماقك، إذا ضعت نادوك، فردد شيء داخلك النداء، واذا مت، كتبوا على قبرك، ولد كالريح في قرية منسية ونائية، ومات كحجر بارد، في يد غريق”.

وسرعان ما تنقلب علاقة هذه الذات المهشمة بالآخر من نداء إلى خذلان في نص بائعة الخبر الذي تروي فيه الشاعرة بأسلوب سرديّ سيرتها:

“ذات شتاء قاس، كنت بائعة خبز، في قرية صغيرة جدا، جاء أحدهم، وكان جائعا، فمنحته رغيفا، وأخذته إلى بيتي…….ثم صحوت ولم أجده”.

في هذا النص سيرة بائعة الخبز واصطدامها بالزمن وبالآخر “صحوت ولم أجده” تصور لنا الشاعرة خذلانها ورعبها من الزمن والفقد والوحدة إذ تقول أيضا في نص “لا تذهب “:

“لا تذهب ولو ليوم واحد،

ولو لدقيقة واحدة،

ولو للحظة،

ليس من دوني،

وليس معي،

لا في الزمن ولا خارجه،

لا تذهب”.

سيرة ملتبسة بالآخر الذي تناديه أحيانا، وتصنعه في صورة سريالية أحيانا أخرى: “احتجت إلى رجل فصنعته”. وهو الذي تمنحه حكايتها: “سأحدثكم عن الغدر”، والذي يبكي كالأطفال وهو الذي يصلح ويفسد كل شيء.

أصوات أخرى مهشمة

ليس صوت الذات وحده هو الذي يبرز في هذه النصوص. ثمة صوت الجسد الذي يحضر بكثافة في المجموعة: “الأرجل، الأرداف، الأصابع، ركبتيّ، كتفي، شعري، يدين، صدري الفائض حبا”. إنها سيرة الجسد الذي تكتبه الشاعرة ويكتبها في اشتباك دائم مع الذات ومع الآخر ومع الطبيعة والزمن.

ومن الأصوات الأخرى، تبرز الطبيعة: “سمعتني الطبيعة ولم تبك”، والشجرة، والنهر: “لم أجر كالنهر”، والنباتات، والريح: “في انتظار الريح الأخيرة”، والأرض. يحضر معجم الطبيعة بكثافة كصوت من الأصوات التي تضج بها القصائد والأمكنة التي تعبرها الشاعرة حقيقة أو خيالا.

كما يحضر صوتي الحب (السعادة) والخذلان (الهجر والفقد)، صوتان لا تكاد نصوص لمياء المقدم تخلو منهما، وقد يصلان أحيانا إلى حدّ التوحد في صوت واحد كما في نص نبوءة: “سيقتلني حبيبي ذات يوم/ إذا لم تجدوا جثتي فتشوا في قصائده”.

الاغتراب والشقاء ثيمتان أساسيتان نسجتا عوالم الكتاب الشعري، إذ لا يكاد نص من النصوص يخلو منهما كتعبير صارخ عن الذات التي تعاني وترزح تحت وطأة وجودها، حيث كل الحيوات والأحلام تفسد وتنتهي وتتحطم في النهاية، وتصل جثة في صندوق:

“تصلكم الجثة كاملة بعد قليل

لا ينقصها شيء فاستلموا الصندوق،

تجدون داخله

أبناءنا الميتين

وأشجارنا المقطوعة من أسفل الجذع”.

إنها عبثية الحياة، فكل ما كان يوما صالحا وجميلا وحميميا ينطفئ في لحظة، كأنه لم يكن الحب، الأصدقاء، البيت، الحديقة، الجسد… كل شيء ينكسر في النهاية أو تسحبه يد الفناء. هكذا يزهر الموت في نص “الحديقة”:

“سيموت كلانا، وتبقى الحديقة مفتوحة على الفصل الأخير، ككتاب في يد عجوز داهمه الموت أمام مدفأة، كرسيّه يهتز لأيام، وعلى وجهه ظلال من عبروا… ذات صباح، سنخرج أنا وأنت إلى العشب لنستلقي بنيّة الحبّ، لكنه سيأكل أصابعنا، وأعيننا، ويطحن عظامنا”.

وسط كل هذا الخراب الذي يحل بالذات، وسط شقائها واغترابها وعبثية وجودها، يبقى الشعر خلاصا يتدفق من نهر مخيلة الشاعرة يصلح ما أفسدته الحياة ويقوّم اعوجاج الوقت. إنه النداء الخفي والواضح والمعبر عن المحنة والشقاء: “أكتب لتراني، لتعرف كم أحبك، هكذا تعلمت الشعر… من أجلكَ أشقى، ومن أجلكَ ألقي بالقطعة الأخيرة”.

في هذا الكتاب الشعري تلتبس فيه العلاقات، بين المشاعر والجسد بين الحب والخذلان، بين الذات وعلاقتها بنفسها وبالآخر وبالطبيعة التي هي الفضاء الواقعي أحيانا والمتخيل حينا، كما يلتبس الزمن بين الواقعي الفيزيائي وبين الزمن المتخيل. ويأتي الشعر متدفقا ومنسابا، لنجد أنفسنا أمام سيرة ذات مغتربة ومهشمة تتدافع داخلها المتناقضات جميعها، حيث يكون الشعر دائما هو المخلص من هذه العوالم النفسية المعقدة.

بامكان الشعر أن يفتح حلقة خارج الزمن وان يداوي الجسد والروح السقيمين، وأن يخرجنا من هذا الجحيم.

تجدر الإشارة إلى أن لمياء المقدم درست الأدب واللغة العربية، وتقيم منذ سنوات في هولندا. عملت صحافية ومقدمة برامج في إذاعة هولندا الدولية، وصدر لها مجموعتان شعريتان، “بطعم الفاكهة الشتوية” 2007، و”انتهت هذه القصيدة، انتهى هذا الحب” 2015. كما صدرت لها ترجمات عن اللغة الهولندية، ونالت في عام 2001 جائزة الهجرة للأدب بهولندا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى