عواصف التفاهة تضرب البنى الاجتماعية العربية… المجتمعات التحتية تمنح النجومية للتافهين كرد فعل طبيعي على القهر
النشرة الدولية –
بات الشعور بتفوق التفاهة في بعض المجتمعات العربية محل اتفاق بين مفكرين ومبدعين، ما أضفى حالة عامة من الاحباط على الأجيال الشابة في بيئات العمل. وساهم الشعور بعدم جدوى التميز والكفاءة في سيادة حالة من عدم الاكتراث. وتطورت المسألة إلى ما يُعرف بموت القدوة، وسقوط الرموز، بحسب ما نشره موقع “العرب”.
يقر خبراء بأنه إذا كان حكم التفاهة يمثل مرحلة من مراحل تطور النظام الرأسمالي الحديث في الدول الغربية، فإن المجتمعات العربية على وجه الخصوص تقدم نموذجا مغايرا لتفوق التفاهة، بغض النظر عن النظام الاقتصادي السائد، لوجود محفزات إضافية بخلاف تطور الرأسمالية، مثل تدني مستويات التنمية الإنسانية، وتفشي الفقر والجهل، وشيوع القمع الفكري، ومزج الخرافات بالدين، واتساع حالة الاستقطاب السياسي في ظل التحولات الجارية في المنطقة.
وجددت ترجمة كتاب “نظام التفاهة” لأستاذ الفلسفة الكندي آلان دونو لأول مرة إلى اللغة العربية على يد الدكتورة مشاعل الهاجري، أستاذة القانون الخاص بكلية الحقوق جامعة الكويت، حالة الجدل الدائر حول مدى تغلغل الشعور بسيادة التافهين في أركان المجتمعات العربية.
وإذا كان دونو يرى أن نظام الرداءة والتفاهة يسمح لإنسان جاهل بأن يتاجر في المخدرات، ويعمد إلى تبييض أمواله، فيبني مستشفى يُشغل فيه الأطباء، أو يُشيد مدرسة أو جامعة تُشغل مدرسين وأساتذة، أو يُنشئ شركة مقاولات يُوظف فيها مهندسين، فيغدو هذا التافه رمزا وقدوة في المجتمع، بل صاحب الرأي والمشورة والسلطة والقول، أمرا ونهيا، فإن هناك في المجتمعات العربية مَن كونوا ثروات ضخمة بأساليب غير مشروعة، ولم ينشئوا مستشفيات أو يشيدوا مدارس أو جامعات، ورغم ذلك يحظون باحترام وتقدير المجتمع.
وأوجد الشعور المتنامي بالظاهرة حالة من اليأس والتيبس على المستوى الفكري بين الشباب الذين باتوا يعتقدون أن الكفاءة والاجتهاد لم يعدا من الأسباب الكافية للتحقق، وإنما يعتمد الأمر بشكل أكبر على الانتهازية، والقدرة على التسويق الجيد، والارتكان إلى شبكات العلاقات الخاصة والمجاملات والمصالح المشتركة.
يرى بعض خبراء العلوم الاجتماعية أن ذلك الشعور يمتد أيضا عبر مجالات الفن والآداب والسياسة، ويمكن اعتباره عنوانا لمرحلة ما بعد ثورات الربيع العربي.
ويؤكد هؤلاء أن ظاهرة تصدر الأدنى والأقل إمكانيات وقدرات ولمعانهم كانت موجودة منذ القدم، غير أن ذلك الوجود كان محدودا، ولم يزد على كونه استثناء ناتجا عن المصادفات الطبيعية.
يبدو أن الأمر اتسع مع تطور وسائل الاتصالات والتكنولوجيا، ثُم تحول بعد ذلك إلى ظاهرة واضحة مع انطلاق ثورات الربيع العربي التي شهدت ميلاد نجوم كثر بلا قدرات أو سمات مميزة، ولم يلبث أن تصدر هؤلاء المنابر الإعلامية والسياسية، ثم امتد الأمر إلى ساحات الفن والأدب والإبداع.
قالت الدكتورة إنجي عبدالحميد، الخبيرة في المركز القومي للبحوث الاجتماعية بالقاهرة، لـ”العرب” إن تراجع معدلات التعليم والمعرفة والقابلية للابتكار في الدول العربية جعل هذه المجتمعات ساحة مثالية لسيادة التفاهة.
ورأت أن ذلك لم يعد أمرا صادما أو مستغربا من جانب المجتمع، خاصة في ظل وجود نماذج لا تدلل على تقدم ونجاح أناس دون ملكات أو قدرات حقيقية، بل وتصدرهم الصفوف الأمامية باعتبارهم نجوما متفردين.
وفي تصورها فإن المجتمعات التحتية، غير المرئية لنا على حد قولها، لها قوانينها الخاصة، وهي تتقدم بُخطوات واسعة وتمنح النجومية والشعبية لكائنات غير جديرة بذلك، كرد فعل طبيعي على شعورها بالقهر أو التهميش، وربما يفسر هذا نجاح مطربين شعبيين أصواتهم كريهة، وموسيقاهم مُزعجة، مثلما هو الحال فيما يعرف بأغاني”المهرجانات” الشعبية في مصر.
استعانت إنجي عبدالحميد بفكرة “المقاومة الصامتة” التي طرحها المفكر الأميركي آصف بيات، في كتاب له يحمل الاسم ذاته، لتؤكد أن سيادة التفاهة مرتبطة بحراك غير ملموس للقواعد التحتية للمجتمعات التي وجدت في ميلاد وسائل التواصل الاجتماعي فرصة لتؤكد وجودها وتفرض صوتها وتتفاعل مع كل ما يتفق معها من خطابات أو ثقافة شعبية أو فنون تافهة.
وهناك مَن يرى أن صعود التفاهة في العالم العربي مرتبط أكثر بالتحولات السياسية الجارية، والتي تضمحل فيها تأثيرات قبضة الدولة لحساب الأفراد والجماعات.
ويمايز البعض بين نظام التفاهة السائد في الدول الرأسمالية المتقدمة، وذلك السائد عندنا، مؤكدين صعوبة المقارنة بينهما.
أكد الدكتور أحمد سالم، أستاذ الفلسفة في كلية الآداب جامعة طنطا، شمال غرب القاهرة، لـ “العرب” أنّ من الخطأ مساواة نظام التفاهة في العالم الغربي بمثيله العربي. وأوضح أن الأمر في الغرب مرتبط بفكرة تسليع كل شيء، وسيطرة المادة على جانب كبير من القيم، لكنه في الكثير من المجتمعات العربية مرتبط بطبيعة العلاقة مع السلطة، فالذي يبزغ أكثر الذي يبالغ في إظهار الولاء والتأييد للسلطة من خلال أساليب غير أخلاقية، مثل ممارسة التحريض ضد الكفاءات أو الإدعاء عليهم بعدائهم للسلطة.
وهؤلاء التافهون يستهدفون تغطية ضعفهم المهني والعلمي، فضلا عن قلة الكفاءة الإدارية، طلبا للمناصب والنفوذ واللمعان. أما الأكفاء الحقيقيون فيضطرون إلى التقوقع في محيطات شبه منعزلة عن المجتمع أو الهجرة إلى الخارج بحثا عن مجال أرحب للإبداع.
ولفت سالم إلى أن نظام التفاهة في الغرب لا يضرب بنية المجتمعات ولا يؤثر على القيم العامة بسبب وجود مؤسسات راسخة قوية لديها سلطات حقيقية، وقادرة على محاكمة نماذج التفاهة وتصحيح الأوضاع القائمة، ومن ثم فإنه لا خوف على تلك المجتمعات من التلاشي أو التقهقر نتاج الظاهرة.
بينما لا توجد في المجتمعات العربية مثل تلك المؤسسات، بل يخضع الأمر لـشخصيات قوية لا يضمن أحد استمرارها، ما يعني أن الاستقرار المجتمعي مرتبط بالأقدار أولا وأخيرا، وأن عواصف التفاهة قادرة على زعزعة ذلك الاستقرار في أي لحظة.
وفي تصور أحمد سالم، فإن ظاهرة النوستالجيا (الحنين إلى الماضي) المنتشرة في بعض الأوساط العربية، نتاج طبيعي لسيادة نظام التفاهة.
وضرب مثلا بالفنون والسينما، فلم يعد هناك مِن صناع السينما مَن يبحث عن الفكرة الجديرة بالبزوغ، وانشغل كثيرون بكيفية لفت نظر أكبر عدد من القطيع، لذا فإن الكثير من الجمهور يحاول المقاومة بالفرار إلى مشاهدة أفلام قديمة أو الاستمتاع بمسلسل رآه قبل عشرين عاما.
وتتفق الدكتورة راضية طاهر، مدرسة النقد الأدبي في جامعة باجي مختار، بمدينة عنابة، شرق الجزائر، مع فكرة التمايز بين البلدان الغربية والعربية ليس في مستوى التفاهة أو القدرة على مقاومتها فقط، إنما في كيفية تشكلها إلى درجة أنها ترى ما هو قائم في المجتمعات العربية أبعد كثيرا من إطلاق توصيف نظام التفاهة، لأنه أقل من نظام.
وقالت الباحثة الأكاديمية لـ”العرب” إن نظام التفاهة الذي وصل إليه الغرب يمثل طورا من أطوار الحضارة، وإن كان هذا الطور لا يرضي بعض الفلاسفة والمفكرين من أمثال ألكسيس كاريل، وآلان دونو وغيرهما، لكن هذا الطور لم يصل إليه المجتمع العربي بعد ولن يصل إليه قريبا.
وأوضحت أن سبب ذلك هو أن آلان دونو يرى أن مفهوم العمل الذي يعني الإنجاز الإبداعي التخليقي تحول في أوروبا الصناعية إلى مفهوم الوظيفة التي تعني ميكانيكية الإنجاز من غير إبداع، كما هي جملة وظائف أجهزة الإنسان، مثل الكبد والمعدة والمريء، حيث يؤدي كل عضو وظائف محددة بلا إبداع.
وتابعت قائلة “وصل الغرب إلى مستوى رفيع من التقدم بعد قرون من الإنجاز والعمل الدؤوب، فكيف لعالم متخلف لا يؤدي واجبه أن يصل إلى مستوى الوظيفة التي سمّاها آلان دونو تفاهة؟”.
ورأت راضية طاهر أن الكثير من المجتمعات العربية لم ترق بعد إلى مستوى التفاهة الذي يقصده دونو، ونأمل الله أن يرفع من هممنا لأن نكون تافهين بمفهوم دونو.
ويقول مبدعون عرب إن سيادة التفاهة أصبحت سمة مميزة للإبداع الشائع الذي صار يُركز بشكل أكبر على مخاطبة الغرائز، وكسر المألوف، وتجاهل القيم تحت زعم أن مهمة الإبداع إثارة الدهشة فقط، والهبوط باللغة إلى مستنقعات عدم الإبداع.
ولاحظ البعض أن السينما على وجه الخصوص تمثل نموذجا فجا لصعود التفاهة، رغم ارتفاع الإيرادات، واتساع أدوات الترويج وتطور أساليب الدعاية.
قال السيناريست المصري محمد حلمي هلال، الذي كتب للسينما أفلاما عديدة، أبرزها “حكايات الغريب” و”يا دنيا يا غرامي”، إن السينما في بعض الدول العربية تنتصر اليوم للتفاهة وتبشر بقيم الانحطاط والتخلف من خلال محاكاة الأفلام الأجنبية دون ترسيخ حقيقي لأي من القيم الجمالية والحضارية.
وأوضح لـ”العرب” أن السينما باتت ثرثرة عبثية أشبه بمنتج مقزز ومنفر.
ورأى أن الناشطين في المجال الفني يسيطرون على الكثير من المسارات وقد يضعون العراقيل أمام الآخرين لتسويق نموذجهم الوحيد، باعتباره الفن الأمثل مع أنه النموذج الكامل للتفاهة. وفي سبيل ذلك تُقام المهرجانات وتنظم الجوائز وتتوالد مجموعات من النقاد والمبشرين بالتفاهة كفن حقيقي، ما يطمس القيم الجمالية الصحيحة.
ويبدو الأمر مشابها في مجال الأدب، حيث تطغى فكرة الأكثر مبيعا على الأكثر إبداعا وينعزل المبدعون الحقيقيون غير القادرين على الترويج لإبداعاتهم على حساب آخرين أكثر قدرة على التواصل الاجتماعي والترويج الدعائي.
وأشار الروائي والناقد الأدبي مصطفى بيومي، لـ “العرب”، إلى أن ساحة الأدب نفسها تعاني منذ سنوات طويلة من تجاهل قيم إبداعية عظيمة، والانشغال بأصحاب الأصوات العالية الذين يستهدفون الاستعراض قبل الإبداع.
وضرب مثلا بمبدع كبير تناساه الناس، هو الأديب الراحل عبدالوهاب الأسواني، رغم قيمته الإبداعية العالية، بينما حاز ابن شقيقه الروائي علاء الأسواني مكانة أعظم وشهرة عالمية أكبر، مع أن هناك فارقا كبيرا في القيمة بينهما، لأسباب ليس لها علاقة بالأدب.
وفي الإعلام أيضا، تتكرر الفكرة سواء في الميديا التقليدية أو حتى في الميديا الجديدة الناتجة عن تطور وسائل الاتصال، مثل “اليوتيوبيرز”، إذ طغت الرغبة في جني عدد أكبر من المشاهدات على تقديم المحتوى الموضوعي النافع، ما أنتج أجيالا من التافهين في المجتمع الساعين إلى لفت الأنظار فقط، دون نشر وعي أو تقديم قيمة.
ورغم وضوح الظاهرة، لا توجد طروحات لكيفية مقاومتها، حتى أن آلان دونو نفسه لم يجد طريقا محددا لمجابهة الفكرة أكثر من القول إن المطلوب مقاومة كل ما يجذب إلى الأدنى، وألا نترك لغة الإدارة الفارغة تقودنا، ونعيد معاني الكلمات إلى مفاهيم مثل الدستور، والقانون، والمواطنة، والمال العام، والمنفعة العامة.
وأصبحت المقاومة في العالم العربي أكثر إلحاحا في ظل هشاشة البُنى المجتمعية، وضعف تماسك منظومة القيم أمام موجات من الأفكار والتقاليد المغايرة التي قد تختلط بما يعرف بحروب أجيال مختلفة من التكنولوجيا.
ويدفع وعي الكثير من الحكومات العربية بذلك الخطر إلى التعامل بجدية مع الظاهرة، ما يستدعي إعادة بعث التراث الحضاري للعالم العربي والاحتفاء برموز النضال الوطني، بجانب دعم قضايا الثقافة والإبداع.
ومن الضروري العمل على تقنين وتنظيم صناعة المحتوى الرقمي على شبكات التواصل الاجتماعي بحيث يخضع لضوابط تتسق وقيم كل مجتمع، فضلا عن إعادة الاعتبار لقيم المواطنة والتسامح وعدالة الفرص واكتشاف الكفاءات وإقرار مبدأ سيادة القانون.
ويرى البعض إمكانية الاستعانة بتجارب دول كبرى في حماية خصوصياتها القيمية وتحصين مجتمعاتها.
ولفتت الدكتورة رانيا صالح، الخبيرة في الشؤون الآسيوية، في تصريح لـ”العرب” إلى أنه يمكن الاستفادة من تجربة الصين في مقاومة موجات التسليع والتغريب عبر وسائط التكنولوجيا، فقد نجحت في التجاوب والتفاعل مع التطور، لكن عبر نماذجها الوطنية، وتحتفي بالثقافة الوطنية وتراعي قيم الجمال المتعارف عليها، ما أهّلها للإفلات من نظام التفاهة.