الهروب إلى الأمام* لمياء المقدم

النشرة الدولية –

مرة أخرى أفكر أنه لا مجال للتراجع في أحيان كثيرة عن أمور لا نريدها حقا ولكننا نضطر إليها اضطرارا.

طريق العودة أصعب من المشي إلى الأمام، أو ربما معرفتنا به هي ما تجعله كذلك. عكس طريق المستقبل المجهول والمفتوح على كل الاحتمالات.

التصحيح ليس دائما في شطب وإلغاء ما سبق والعودة إلى نقطة الصفر، التصحيح يكون أحيانا بالذهاب إلى الأمام.

البعض يسميه الهروب إلى الأمام، والبعض يسميه مكابرة، وآخرون لا يجدون له اسما، لكنهم يستمرون فيه.

كثيرون يجدون في الهروب – أي هرب – الحل لمشاكلهم، لهذا يهربون من البيت إلى الخارج ومن الخارج إلى البيت، من أنفسهم للآخرين ومن الآخرين إلى أنفسهم، ويهربون من أي شيء إلى أي شيء، المهم أن لا يتوقفوا لأن الوقوف يعني التفكير، والتفكير يعني الألم ربما.

الهارب هو الشخص المتحرك على الدوام، المتغير، غير الثابت على شيء، وهو لمن لا يعرفه شخص سعيد، يخرج كثيرا، يستمتع بوقته، أصدقاؤه كثيرون، نشاطاته لا تتوقف، ضحكته عالية وصخبه يملأ الأمكنة التي يدخلها، كما أنه ذلك الشخص الذي لا يتوقف عن الكلام تقريبا، لأن السكوت يعني الاستماع إلى صوت الداخل وضجيجه، وهو ما لا يجب أن يحدث.

لا يحب هذا الشخص الاختلاء بنفسه، لأنه يفزع منها. يخاف أن تخاطبه فجأة بما لا يرغب في معرفته مع أنه يعرفه جيدا وفي أحيان لا يعرفه، ولكنه يحسه.

يأتي الهروب إلى الأمام غالبا في شكل مزايدة على الواقع، فإذا كان الذي يتعبه علاقته بالآخر، تجده يكثر من العلاقات ويتنقل بينها بلا تحفظ، وإذا كانت مشكلته صحية، يزايد عليها بتجاهلها والانغماس في كل ما يعود على الصحة بالضرر.

يجد الهارب إلى الأمام دائما مبررات لنفسه، ولهربه. مثلا لو كان مصابا بسرطان الرئة يستمر مع ذلك في التدخين بشراهة وبدون مراعاة لمرضه، عندما تسأله عن سبب ذلك سيجيبك بأنه ميت لا محالة فالأفضل أن يستمر في فعل ما يحبه.

وإذا كان يكثر من العلاقات ولا يستقر على واحدة لأنه عانى كثيرا من علاقة ما سيخبرك بعدم جدوى الاكتفاء بشخص واحد طالما هناك فرصة للحصول على أكثر من شخص.

ردوده فكاهية، متهكمة وساخرة من كل شيء. إجاباته هائمة وعلاقاته سطحية. لا شيء حقيقيا، لا شيء ثابتا لأن لا شيء يجب أن يعوقه عن الهرب مجددا إلى الأمام ساعة يريد ذلك.

لا أحد يعرف متى يستريح هذا الشخص الهارب، فقد يقضي عمره كاملا في الهرب، ويتحول الهروب لديه إلى أسلوب حياة. يتعود على حياته الراكضة، اللاهثة على الدوام فيستكين إليها ويصبح بيته الآمن، رغم الرياح التي تدخله من كل جانب. في أحيان أخرى يحدث أن يتعب هذا الشخص، تعبا مفاجئا، فينهار بلا أدنى مقدمات، ويتحول من النقيض إلى النقيض. يذهب الصخب والضجيج والحركة ويحل محلها صمت وسكون طويلين.

المحظوظون من هذه الفئة هم الذين يلتقون في حياتهم من يمسك بأكتافهم بقوة، يهزها بشدة، وينظر في أعينهم قائلا: “توقف”!

سيرتعبون في الأول، يعلو نفسهم وتشخص عيونهم، وهم يحاولون أن يستوعبوا معنى كلمة “توقف”، ثم شيئًا فشيئًا تستكين أطرافهم، تهدأ أنفاسهم ويسترخون، ثم يبدؤون في النظر إلى العالم من حولهم، العالم الذي لم يكونوا قادرين على رؤيته بسبب السرعة، والهرب، والملاحقة.

الهروب إلى الأمام مؤلم، وإن بدا عكس ذلك، مستنزف وطاحن. الأكثر من ذلك، هو يحول الهارب إلى كائن ضئيل متآكل، لا يرى، لا يسمع، لا يشعر ولا يستمتع. فقط يهرب.

جميعنا نمر بتجربة الهرب من شيء ما أًو من أنفسنا في مرحلة ما أو موقف معين من حياتنا. وظني أن الباب يجب أن يظل مفتوحًا دائما لمن يريد أن يهرب، المهم أن لا يطول الهرب وأن يكون مرحلة أولية من أجل التوقف لاحقا، ومراجعة النفس، وتأمل الحالة من جوانبها واستيعابها والتعلم منها.

الحياة على السطح مهما بدت مرحة خفيفة متخففة سعيدة، إلا أنها ليست حياة.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button