في خطر الالتقاء بين تيارات الفوضى و الايديولوجيا، هل ينجح الرئيس في ضبط الأوتار في تونس ؟ أصلان بن حمودة

النشرة الدولية –

“نبني قيسُ ما الذي لك في البيد من وطر”… هكذا كتب أحمد شوقي في رائعته المسرحية الشعرية “مجنون ليلى” التي وصف من خلالها تجليات العلاقة و تطورها بين قيس و معشوقته ليلى. لئن نجح قيس في التعبير عمّا يخالجه و لم ينجح في نيل وصال محبوبته. فهل ينجح قيس الذي لدينا في نيل وصالنا و ضبط الأوتار في تونس بعد أن نجح في التعبير عن مراده طوال حملة انتخابية بليغة ناجحة.

 

لم يلفت المرشح السابق – رئيس الجمهورية التونسي المنتخب حديثا – قيس سعيّد أنظار التونسيين إلاّ بطريقة تكلّمه باللغة العربية الفصحى، إذ علاوة على فصاحته فطريقته الفريدة في التحدث بنبرة واحدة قامت باستفزاز عدد كبير من المتابعين للشأن السياسي العامّ نظرا للفرنكوفونية السائدة لدى أغلبية المجتمع التونسي و هو ما دفعهم للتركيز معه والبحث في تصريحاته الجريئة مثل “إمّا أنّ الإرهاب أقوى من الدولة أو أنّه من الدولة” و التي تسببت في احتجابه عن قنوات الاعلام المرئي لسنوات. فظلّ صدى جملته الشهيرة تلك يتردد في مسامع التونسيين ما حدا بهم للبحث في تحركاته و تصريحاته تلك التي وجدوا فيها ملاذا خصبا لتأويل يشحن مخيلاتهم عمّا يحدث في أروقة السياسة ودهاليزها. ثمّ رأوا فيه في وقت لاحق منقذهم من تلك الفترة الحرجة التي تمرّ بها تونس في الآونة الأخيرة.

و بعد فوز هذا الأخيرفي الانتخابات الرئاسية عبر المرور بدور ثان أصبح من المتوقع طرح الأسئلة التالية:

ما الذي اتسم به هذا المرشح الغامض للرئاسة؟ و مالذي دفع بغالبية الشباب إلى دعمه بتلك القوة؟ ما هي أهم ركائز هذا المشروع الذي يقدمه قيس سعيّد للشعب التونسي عبر تقديم وعود واضحة في ظلّ حديثه عن تفعيل لأدوات الحكم المحلّي؟

وهل هناك قوى معيّنة ترى في قيس سعيّد قارب نجاتها أو أداة لتحقيق مآربها عبر الوقوف وراءه عبر دعمه؟ هل المشروع السياسي الذي يطرحه يمكن استعماله لاتمام بناء الدولة الحديثة أم لهدمها و تدمير ما بقي منها ؟ و هل ينجح في ضبط الأوتار و تعديلها بعد عدم نيل حكومة الحبيب الجملي الثقة من مجلس النواب، و الحديث عن حكومة الرئيس ؟

 

الرئيس الغامض و فقر التعابير :

تميّز المرشح الأسبق و الرئيس المنتخب حديثا للجمهورية التونسية أستاذ القانون الدستوري قيس سعيّد بغرابة طريقته في المحاورة إضافة إلى ضعف التعابير المتعلّقة بالوجه وهو ما اصطلح عليه بالــ  Hypomimie أو بالانجليزية Hypomimia ، حيث يتميّز المصابون به بفقر تعابير الوجه ما دفع المتخصصين لتسميتهم بأصحاب “الوجه الرخامي –  Visage de marbre” أو بالانجليزية “Marble face” أو “الوجه الأوحد” ما يعرف تحت مسمّى “Uni-face”.

و تدلّ هذه الصفات و الخصائص على فقر تعبيريّ داخلي شامل . حيث تكون أغلب الأحيان نتيجة حالة مرضية  سببها صدمة نفسية حادة.  كما تميّز أغلب الزعماء و السياسين المصابون بفقر تعابير الوجه بكونهم من ذوي الفكر الواحد الذي لا يقبلون سواه، كما يتميّزون كونهم دائمي الحياد – لا ردود لهم سوى ما تسمح به اللغة و الصوت – أمام الأحداث مهما كانت درجة خطورتها، التي تتسبب في رفع نسبة التفاعل معها عادة. لكن هذه الخصائص الجامدة لدى الرئيس التونسي المنتخب حديثا و الذي  أدىّ اليمين الدستورية يوم 25 أكتوبر 2019، بصحبة قوّة لغوية  طاغية استطاع من خلالها الوصول لأكبر شريحة انتخابية ممكنة ثم قام بحشدها في صفّه. كلّ هذه الخصائص دفعت بعض المختصين في الاتصال و التواصل للحديث في هذا الشأن واطلاق دعوات إلى ضرورة تدريبه على التخلّص من ذلك لحساسية المنصب أقلّه رسم ابتسامة رئاسية ملائمة يحتاجها لضبط سياسته الداخلية و الخارجية.

هذا البرود الملمحيُّ المخيف قابله  اقتراب من تطلّعات الشعب و رغباته عبر عربية فصيحة سلسة جعلت منه مفردة خارج سياق اللغة السياسية المألوفة والسائدة، ليؤكد قيس سعيّد كونه قادم من خارج التركيبة النمطية التقليدية ثمّ يضربها في مقتل عبر فوز ساحق على منافسه نبيل القروي بعد سقوط جميع عرائس الخشب السياسية أمام الاختيارات الشعبية عبر لعبة الصناديق.

هذه المفردة القادمة من خارج المكّعب النمطي استطاعت فرض نفسها و اكتساب مكان يعتبر لحدّ الآن ثابتا عبر لغة اختارت الارتفاع عن الرداءة و ثقافة التفاهة المهيمنة بتواجد عقلاني يوحي بالمحافظة ازاء مخاوف هوويّة أرّقت الشارع التونسي إذ مثلت نوعا من الطمأنينة و الثقة المفقودة والاستقرار وسط فوضى القيم والمفاهيم النمطية السائدة.

غير أنّ ما حيّر الملاحظين والمتابعين المحليّين للشأن الوطني إضافة إلى المحلّلين في شتى بقاع العالم المهتمين بالشأن التونسي علاوة عن التعبيرة الثابتة التي لا تكاد تتغيّر ، هذه الشخصية الغريبة “رجلٌ غامضٌ بوجهٍ أبيضٍ نحيل دون ملامح واضحة و ذو بنيةٍ نحيلة وأطراف طويلة يرتدي دائما بدلة سوداء”.ليصبح مؤخرا اللاعب الأبرز على الساحة يطارد لاعبين معيّنين ويقضي عليهم. ثم يصنع الحدث باحتلاله مواقع متقدّمة. هذا الرجل الذي يشبه سلندرمان في نسخته التونسية استطاع أن يطارد – لاعبين سياسين متمرّسين متحصّنين بترسانة اعلامية ومالية بطريقة بسيطة و هادئة دون أن يثير ضجّة ما أو يلفت الانتباه لينتصر عليهم في الأخير محدثًا رجّة في الساحة الساسية التونسية.

هذا الرجل  الأعزل الذي جابه ماكينة بوجه غامضٍ جادٍّ فتح له طريقا زرع له بدوره طمأنينة وسط هذا التهريج السياسي من خلال مفردة بديلة مرفوقة بمشروع لم تتضح معالمه بعد، صاحَبها تفاؤل شعبيّ لخوض هذه المغامرة المجهولة التي تعتبر مخيفة لدى البعض ومشجِّعة لدى البعض الآخر. كلّ هذه الخصائص ترسم بمفردها سؤالا رواه أحمد شوقي على لسان ليلى في مسرحيّته الشعريّة ” نبّني قيسُ ما الذي لك في البيد من وطرٍ؟”

إنّ المشروع الذي يتقدّم به الرئيس المنتخبُ حديثا إلى الشعب التونسي مشروع يظلّ ظاهره ديمقراطيّا ذو أهداف نبيلة عبر الرجوع إلى السلطة الشعبية الممنوحة للمجالس البلدية لتقرير مصيرها لكنّه في داخله يبدو نموذجًا مُتونَسًا للمجالس السوفياتيّة المندثرة في طرح يكاد يقارب اللجان الثورية التونسية إبّان الثورة، ما سمّي حينها بروابط حماية الثورة. إلاّ أنّ سعيّد راوغ الجميع عبر دعوته الصريحة إلى تطبيق القانون بحزمٍ مشدّدا أَلاَّ علوية على القانون ليحتفظ برنامجه الانتخابيّ -و الذي لم ينفذ بعد- بجاذبيّته السياسية بالنسبة للشعب. فهذا البرنامج يدعو إلى تغيير نظام الحكم باعتماد المجالس البلدية أو ما يسمّى مجالس الحكم المحليّ / المجالس المحليّة للوصول إلى تمثيليّة تشريعيّة فيصبح حينها التدرّج في الحكم من المحليّ فالجهوي فالوطني.

هذا المسار المنتظر إعتماده، له نتائج وخيمة على المشهد السياسي حيث ستفقد الأحزاب السياسية  مبرّر وجودها. الشيء الذي سيدفع بها للإضمحلال تلقائيا، علاوة عن عزوف الأفراد عن ممارسة العمل السياسي صلب التنظيمات الحزبية. هذا المشروع المرتكز على قاعدة الحكم المحليّ المتعارض رأسًا مع مبدأ ترسيخ السلطة المحلية، يظهر الفرق جليًّا بينهما. إذ أن مبدأ الحكم المحلي(ما يسمّى القرارات المنبثقة عن الإرادة الشعبية) يتعارض مباشرة مع مبدأ ترسيخ السلطة المحلية الذي يتمظهر في تواجد الدولة و هياكلها في مختلف الجهات و السهر على تنفيذ البرامج و المشاريع المرتبطة بسياستها العامة. وهو ما لا تقبله الدولة بجميع هياكلها و مؤسساتها، فهذا البرنامج الثوري القادم من أقصى الأحياء الشعبية للعاصمة و المنبثق من قريحة رجل شعبي بدرجة أولى، اعتاد الجلوس قبالة مدرجات الجامعة مجاورًا الشباب عبر تدريسه مادة القانون الدستوري. لخصه الرئيس في حملته الانتخابية حين سئل عن الوعود التي يقدمها لمنتخبيه والشعب التونسي عموما فاكتفى بالقول: “ليس لديّ أية وعود، الشعب وحده هو الذي سيقرر مصيره”.

هذا الردّ يدفعنا للتساؤل عن مصير السلطة المركزية للدولة وسياستها الإقتصادية والإجتماعية، حيث أنٍ الرئيس المنتخب لم يقدم أية برامج واضحة للخروج بالبلاد التونسية من الأزمة الإقتصادية في ظل انخرام الموازين في المالية العمومية من خلال ارتفاع نسبة التداين الأجنبي وتغوّل الإقتصاد الموازي والتهريب. إذ أنّ الحل بالنسبة له يخرج من رحم القرار المحلي و بقرار من الشباب “الثوري” الذي لم نر منه مبادرة جدية لحد الآن.

هذا الارتجال في وضع الخطوط العامة للسياسة الداخلية و الخارجية صاحبه توجّس من طرف الشارع االتونسيّ، إذ أنّ هذا الطرح يقدم نتائج غير مرغوبة من طرف الشعب حيث سارع أحد قادة حركة النهضة التونسية بالتصريح  بعد صدور نتائج الانتخابات مباشرة بالقول” نريد الحكم وحدنا، و سنتحمل  مسؤولياتنا”. عبر هذا التصريح أعاد الاسلام السياسيّ  تقديم نفسه في ثوب المنقذ البطل المبعوث لمقاومة فساد مجتمعي من اعلاه إلى أدناه. وهو الامر الذي  يرفضه غالبية الشعب و بالنسبة كذلك لفلول النظام السابق التي تعيد تشكيل نفسها عبر واجهات جديدة وأسماء مغايرة. هذا الوضع المستجدّ و في ضلّ الرؤى المطروحة، أصبح مبتغى الوجوه السياسية الجديدة في خطوة أولى تغيير النظام ثم السيطرة عليه عبر الهيمنة على البنى الإجتماعية من خلال وسائل و وسائط متعددة. الأمر الذي يدفعنا لمسار ينتهي ضرورة بانتهاء الدولة كسلطة مركزية لتحل مكانها سلطة أخرى تتساوي فيها جميع دوائر القرار و أشكال السلط. هذا التقارب الايديولوجي بين تيارات متعارضة يدفعنا  لنجد أنفسنا أمام نتيجة حتمية للوضع ألا وهي إلغاء تقلص دور الدولة تدريجيا لفائدة تشكيلات ايديولوجية هوويّة فتختلف مسمّياتها بين اليمين المتطرف أو “الأمة” في تمظهره الجديد  المخفف من طائفيته المقيتة و الممنوعة قانونا. و بين “أزلام النظام السابق” الذين يتسترون بغطاء دعاة الحداثية و الديمقراطية مع مطلب ضروري ألا وهو الاتحاد مع الطيف اليساري بجميع مكوّناته.

هذا التقارب بين الأهداف مثّل فرصة للتقارب في استراتجيات العمل عبر نكران وجود الدولة الوطنية و الرغبة في إزاحتها متى سنحت الفرصة.

من خلال هذه النقطة تتوضح تماما إمكانية الإلتقاء بين تيارات الفوضى والأيديولوجيا، عبر تيار يساريّ راديكاليّ من جهة و تيار يمينيّ متطرّف من جهة أخرى يدّعي كلاهما الحداثة، وهو ما يفسر وقوف “الرضائين” “*” وراء المرشح السابق و الرئيس الحالي رغم تجنب الرئيس قيس سعيد الإنحياز لأحد الطرفين كي يبتعد عن خوض الصراع الإسلامي التقدمي إذ يعتبره ليس من مطالب الشعب أو أولويات الثورة أو حتى من متطلّبات تصحيح مسارها. ويكتفي بالوقوف على الحياد عبر المحافظة على نفس المسافة من الجميع، ما تجلّى في سلسلة اللقاءات المارطونية التي أجراها مع مكوّنات الطيف السياسي التونسي بجميع تمثّلاته قبيل تحديد الشخصية المكلّفة بتكوين الحكومة.

إنّ التفاف العديد من التيارات المتناقضة حول الرئيس قيس سعيد بدءا بحركة النهضة التي فقدت خبراتها الانتخابية وتطمح لاسترجاع ثقة قواعدها وكسب التعاطف من خارج هذه القواعد إلى “الثوريين الصوريين” من تيار عروبيّ قوميّ و فوضويين ينادون بقلب النظام وصولا إلى الحالمين بتطبيق الشريعة و إقامة دولة الخلافة “حزبي التحرير و ائتلاف الكرامة” يؤكّد لنا أنّ الدعم الذي يتلقاه قيس سعيد بدءا بالتضخيم في شخصه الأكاديمي وصولا إلى النزاع الخفيّ في شخصه ورؤيته نزعة راديكالية شعبوية متغلغلة في ذواتهم للسيطرة على الحكم تحت مسمّى ” النزاهة و الانتماء للخط  الدستوري ومعاداة السيستام”. كلّ هذه التعارضات بين الأمر المنشود من قبل الشعب التونسي و الواقع المفروض تحت ظلّ غموض سياسي و عداوة ايديولوجية أثرت سلبًا على مساعي تشكيل الحكومة التي لم تحض بالموافقة على تسميتها، إذ تعذّر الأمر بسبب السياسة المعتمدة من طرف رئيس الحكومة المكلّف الحبيب الجملي عبر عزل الاحزاب و عدم تمكين أغلبها من حقائب وزارية مهمّة تترجم الثقل السياسي الذي يرونه في أنفسهم.

تطورات الوضع الراهن دفعت بنا نحو مرحل ثانية ألا وهي دخول رئاسة الجمهورية على الخطّ في مشاورات تشكيل الحكومة كوسيط راعٍ للعمليّة الأمر الذي يوحي بوجود أزمة سياسية حادة جدا أمام تسارع انقضاء الآجال القانونية لآليات تشكيل الحكومة بعد عدم الحصول على الثقة من طرف نواب البرلمان. حيث نتواجد زمنيا في بداية الفترة الثالثة والممتدة من 15 جانفي حتّى 25 من الشهر ذاته، المدّة الممنوحة لرئيس الجمهورية حتى يقوم بتكليف الشخصية الأقدر من أجل تكوين حكومة توافقية يصطلح عليها بحكومة الرئيس خلال شهر واحد الذي يمثلّ المرحلة الرابعة بين تاريخي 25جانفي و 25 فيفري 2020. ليمنح بعدها البرلمان فترة دستورية -المرحلة الخامسة و مدّتها شهر واحد- بهدف عرض الحكومة المقترحة عليه لنيل المصادقة. وانطلاقا من تاريخ 25 مارس 2020 وفي صورة عدم منح الحكومة المقترحة الثقة من طرف أعضاء مجلس النوّاب يقع حلّ المجلس

دستوريا و تحت اشراف رئيس الجمهورية. كما يدخل لاعبو المشهد السياسي التونسي اللفة الأخيرة و المرحلة النهائية السادسة بين تاريخي 25 مارس و 25 جوان 2020 كونه الأجل الأقصى لتنظيم انتخابات تشريعية مبكّرة حسب ما ينص عليه الدستور.

 

أمام ضبابية النظام السياسي الحالي، هل ينجح الرئيس قيس سعيد مثلما فعل في الانتخابات الرئاسية و حشد الصفوف وراءه في رأب هذا الصدع و تجنيب البلاد فراغا حكوميّا يدفع بنا نحو انتخابات برلمانية مبكّرة سيتكلّف من الميزانية العامة للبلاد الشيء الكثير في وقت نشهد فيه ضائقات اقتصادية و مالية نالت من أغلب الشركات المنتجة صناعيا صاحبة أكبر قسط من المساهمات في الناتج الوطني الخام كشركتي فسفاط قفصة و الشركة التونسية للسكك الحديدية؟

كاتب صحفي من تونس

—————————————-

* الرضائين و قصد بهما رضا شهاب المكيّ و المعروف برضا لينين ، مدير الحملة الانتخابية للرئيس الحالي أثناء سباق الانتخابات الرئاسية و رضا بالحاج الناطق الرسمي باسم حزب التحرير .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى