العلم والإيمان قوّتان لا تصارع بينهما* مادونا عسكر
النشرة الدولية –
يقول الفيلسوف الإنكليزي برتراند راسل إنّ العلم لا يهدف إلى إنشاء حقائق ثابتة وعقائد أبديّة، بل يهدف إلى الاقتراب من الحقيقة بالتّقريب المتتالي دون الادّعاء أنّ الدّقة النّهائيّة والكاملة قد تحقّقت في أي مرحلة. ما يعني أنّ العلم يتّخذ مسار البحث المستمرّ عن الحقيقة ضمن ميكانيزم تفكيريّ يحدّده المنطق والاكتشاف والتّجربة والنّتائج. ولا ريب في أنّ العلم لا يهدف إلى بناء عالم أبديّ أو توجيه الإنسان إلى العالم العلويّ. بل على العكس يروم إلى البحث في حركة التّاريخ وحركة الوجود والتّنقيب في هيكليّة الحياة الإنسانيّة على الأرض، ومعرفة مدى قيمتها من الكون بأسره، بغضّ النّظر عن تحديد ماهيّة العالم العلويّ أو العالم الإلهيّ. على عكس الإيمان الّذي يعتمدعلى تجذير العقيدة، وتحديد الحقائق الثّابتة الأبديّة والتشبّث بها كحقيقة لا ريب فيها.
من هنا يبدو تعارض قاسٍ بين المبدأ العلميّ والمبدأ الإيمانيّ إلّا إذا حصل فصل فكريّ متجرّد بين الاثنين، أي فصل بين لغة العلم ولغة الإيمان لتعارض جوهر المبدأين. فالمبدأ العلميّ جوهره عقليّ، وأمّا الإيمانيّ فقلبيّ. والمعرفة العلميّة تختلف عن المعرفة الإيمانيّة، فالأولى معرفة عقليّة تتحدّد بمقدّمات ونتائج، وأمّا الثّانية فمعرفة قلبيّة عميقة تتحدّد بحسب كلّ شخص وبحسب علاقته مع العلو. وبالتّالي فليس من ضرورة للحديث عن تعارض أو لا. ولا ينبغي الحديث أصلاً عن تعارض؛ لأنّ اللّغتين مختلفتين، وكلّ لغة تعبّر عن ذاتها في ما يخصّ الوجود والكون والخلق والنّهايات. ولمّا كانت اللّغتان مختلفتان وتمتلكان خصوصيّة في النّمط التّفكيريّ فلا مجال للحديث عن تعارض أو توافق. بل الأوْلى ترك كلّ لغة تتّجه في مسارها الخاصّ. وإذا تعارضت لغة العلم مع لغة الإيمان أو بمعنى أصحّ تنازعت اللّغتان وتجاذبتاـ يتعطّل مسار الإنسان التّطوّريّ والتّقدّميّ المواكب لحركة التّاريخ. فيتراجع الإنسان علميّاً وإيمانيّاً وإنسانيّاً، ويغرق في الجهل والسّخافة والتّدمير الممنهج حتّى لا يبقى من إنسانيّته إلّا غرائز تندفع فوضويّاً لتمنع العقل من الفكر الممنهج وتعطّل الإيمان، فيتحوّل تعلّقاً بالقشور لا بالجوهر. وبقدر ما يتخطّى الإنسان دمج اللّغتين العلميّة والإيمانيّة، ويتجرّد من إسقاط الإيمان على العلم أو العكس، يحتفظ بإيمانه كأمر مشخّص ويسير قدماً في العلم كمسار لا بدّ منه للنّموّ والتّطوّر. تلك القدرة مرتبطة بالقدرة على التّحرّر الذّهنيّ والفكريّ من مبدأ امتلاك الحقيقة الإيمانيّة وربطها بالعلم لإثبات حقيقتها. وبقدر ما يدرك الإنسان أنّ لغة العلم غير لغة الإيمان يكون قد تحرّر من الصّراع القائم بين العلم والإيمان.
يقول القدّيس بولس في رسالته الأولى إلى كورنثس (8:1): “الْعِلْمُ يَنْفُخُ، وَلكِنَّ الْمَحَبَّةَ تَبْنِي”، وهنا يفصل بولس بين لغة العلم ولغة الإيمان، دون أن يستبعد العلم، لأنّه لم يقل إنّ العلم يدمّر والمحبّة تبني بل قال إنّ العلم ينفخ، أي إنّه إذا حوّل الإنسان إلى محتكر للحقيقة. لأنّه يتابع ويقول في الآية (2): “فإن كان أحد يظنّ أنّه يعرف شيئاً، فإنّه لم يعرف شيئاً بعدُ كما يجب أني عرف”. ما يعيدنا إلى قول سقراط: “كلّ ما أعرفه أنّني لا أعرف شيئاً”، وكذلك ما ذكره راسل عن أنّ العلم لا يهدف إلى إنشاء حقائق ثابتة وعقائد أبدية، بل يهدف إلى الاقتراب من الحقيقة بالتّقريب المتتالي دون الادّعاء أنّ الدّقة النّهائيّة والكاملة قد تحقّقت في أي مرحلة.
لكنّ بولس يعود ويقول إنّ المحبّة تبني، فالمحبّة لغة الإيمان تحاكي العمق الإنسانيّ وتبني فيه ما هو أبعد من الوجود الإنسانيّ الأرضيّ، وتطلق العنان لحرّيّته الدّاخليّة. وإذ يستنير بها العقل يتحرّر ويحاكي لغة العلم على اعتبارها لغة ضروريّة للتّقدّم والتطوّر. ويبقى العلم علماً والإيمان إيماناً. ولئن كان الإيمان مشخّصاً فلكلّ أن يؤمن بما يشاء ويترك العلم يمضي في مساره دون تعقيدات لا معنى لها. وقد يقود العلم إلى الإيمان بشكل أو بآخر، وقد يقود إلى الإلحاد، ومع ذلك من غير الممكن أن تتّحد اللّغتان؛ لأنّ ما للعلم هو للعلم، وما للإيمان هو للإيمان. للعلم منطقه ومقدّماته وأبحاثه ونتائجه، وللإيمان المحبّة الّتي تبني وترتقي به إلى العلوّ الإلهيّ. وأمّا العقائد والتّصوّرات الإيمانيّة والكتب المقدّسة فلا تتّخذ مساراً علميّاً إلّا في ما يخصّ العالم الإلهيّ. فالكتب المقدّسة ليست كتباً علميّة أو تاريخيّة وإنّما كتب روحيّة، تعزّز قيمة المحبّة الّتي تبني وتوطّد العلاقة بين العلوّ والعمق، بين الله والإنسان. وبقدر ما تبني المحبّة الإنسان يتقدّم نحو الإله، بغضّ النّظر عن مفهوم الإله عند كلّ شخص أو جماعة. وبقدر ما يتقدّم يزداد حبّاً وذوباناً في الذّات الإلهيّة ولا يعود يبحث عن الله في العلم أو بمعنى أصح، لا يعود ويبحث عن ماهيّة الله وعن كيف ولماذا ومتى، لأنّه بلغ الـ “هو”.
ويتجلّى المعنى ذاته في سورة طه الآية 114: فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا وأمّا في القول (ربّ زدني علماً) معنى أعمق للفظ (علم). إنّ هذا اللّفظ يترادف ومعنى المحبّة الّتي بها نعرف الله. فالآية تبتدئ بـ (تعالى الله الملك الحقّ)، ما يعني أنّ الاستدلال على المعنى يبدأ من علوّ أو يدور في العلم الإلهيّ، ولا ينطلق من الإنسان وإنّما من الله. وبالتّالي فكلّ المعاني المستقاة من الآية تدور في فلك العالم الإلهيّ. ثمّ يضيف (ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه) ليجعل من الكلمة الإلهيّة لغة المحبّة الّتي يمتلئ منها القلب ليعود ويحاكي لغة الله. لذلك يقول (ربّ زدني علماً) أي (ربّ زدني حبّاً)؛ لأنّ العلم بالله غير متاح إلّا بتمتمات إنسانيّة، وأمّا المعرفة القلبيّة المعتمدة على المحبّة الإلهيّة تتلمّس الله في الذّات الإنسانيّة. ولو كانت دلالة اللّفظ (علماً) مرتبطة بالعلم الإلهيّ فثمّة تناقض والتباس إذاً، لأنّ الإنسان لا يعلم الله فكيف يقول (زدني)؟ لكنّ المعنى العميق يكمن في الحبّ الإلهيّ الّذي يفيض في القلب فيحاكي القلب بلغة الحبّ الإلهيّة والحضور الإلهيّ، فيكون المعنى الحقيقيّ والعميق “ربّ زدنيّ حبّاً” ليستدلّ الإنسان ويتلمّس الـ”هو”.
ليس من فصل بين العلم والإيمان، كما أنّه ليس من توافق، ولعلّ البحث في إثبات العلم إيمانيّاُ وإثبات الإيمان علميّاً مضيعة للوقت واعتراض لمسيرة التّقدّم الإنسانيّ. فليتّخذ كلّ مساره حتّى تلقى الإنسانيّة إنسانيّتها وتتحقّق بقدر ما يتيح لها العلم وبقدر ما يحلّق بها الإيمان كعلاقة حبّ بين الله والإنسان. والبحث عن إنسانيّة الإنسان وتحقيقها يحتاج إلى العلم والمحبّة، فالعلم من دون محبّة يحوّل الإنسان إلى وحش، وإذا استبعدت المحبّة العلم وحاربته لا تكون محبّة، وإنّما خداع وخبث ومراءاة.
قوّة العلم لا حدود لها، لأنّ العقل البشري قوة من قوى النّفس لايستهان بها، كما يقول ابن سينا. والإيمان قوّة لا حدود لها، لأنّها قوّة الحبّ الّتي منها تُستمدّ كلّ قوّة تسعى وتخدم إنسانيّة الإنسان.