النهضوي بوتيتيشيلي الذي استشرف “ثورة التوأم”* ميموزا العراوي

النشرة الدولية –

لن يمرّ زمن، إلّا وستشكّل فيه من جديد تحفة الفنان الإيطالي من عصر النهضة ساندرو بوتيتيشيلي توصيفا جديدا لأفكار وحكايات منبثقة منها ومتجلية في تفاصيلها. وهي اليوم بروعتها القصوى تجسد الالتباس وتوازن الرعب على السواء ما بين جدلية الحب، والبغضاء، والسلام والحرب في ثورتين مُحقتين أطلق عليهما “ثورة التوأم”، وهما الثورة اللبنانية والعراقية.

ثورتان تناوبتا على استخدام السلمية والعنف، وإن بدرجات متفاوتة من الحدة والتصعيد كي تخرجا من عدمية الفساد وتدخلا جشع الخارج وآفة الطائفية اللذين ما زالا ينخران بنيان البلدين حتى اليوم.

اليوم توشك الثورة اللبنانية أن تتحوّل إلى “العنفية” دون أن تصل إلى الدموية، بسبب تركيبة لبنان الطائفية، ولاسيما بعدما عمدت السلطة من خلال رجال الأمن إلى قمع الثوار السلميين بتواطؤ كامل مع تعتيم إعلامي مُحكم، في حين علت الأصوات، خاصة لدى الفنانين والمثقفين في العراق لحقن الدم واعتماد الأساليب السلمية.

وشهدت الثورتان مظاهر التعاضد من قلب انفطر إلى نصفين في حضور اليافطات البسيطة والفنية على السواء والهتافات من قبيل “من لبنان إلى العراق”، “الوجع واحد”، “الحق واحد والنصر آت من قلب لبنان”، و”سلام إلى العراق”. وحمل المتظاهرون العراقيون الأعلام اللبنانية إلى جانب الأعلام العراقية، بالإضافة إلى لافتات كتب عليها “من بيروت إلى بغداد، ثورة ضد الفاسدين”.

وإذا أطلقت الثورة اللبنانية على ذاتها بـ”الأنثى” لاعتمادها أساليب متعددة غير عنيفة برزت الثورة العراقية ثورة ذكورية أُريقت فيها دماء الثوار الزكي.

هذه الخصوصية “الأنثوية” حاضرة في لوحة الفنان الإيطالي من خلال إظهار الحب وما يرادفه من سلمية منتصرا على “ذكورية” العنف، كما ينتصر السلام على النزاع باستراتجيته “الناعمة” المحمّلة بعنف من نوع آخر ليس هو إلّا سلمية صبورة ومُصيبة لأهدافها.

كل ضليع في شؤون الفن، ولاسيما المعاصر منه، مُدرك أن حضور المفهوم الواسع للعنف والسلم في آن واحد أمر لا صواب في إنكاره. وما الثورتان، العراقية واللبنانية، إلّا مثال على ذلك من خلال الأعمال الفنية التي ظهرت مؤخرا، حيث دخل إليها العنف والسلمية من باب الفلسفة الوجودية المُظهرة بالفن.

هذه السلمية الحاذقة غير المرتبطة بالضعف والمتمثلة بفينوس هي التي تبنتها الثورة اللبنانية بعد مرور عدة أيام على انطلاقها. وهي ذاتها التي أفقدت السلطة صوابها لناحية كيفية التعاطي معها ومحاولة إخمادها بشتى الوسائل ولم تفلح حتى الآن.

وذكرت إحدى الثائرات اللبنانيات أن لبنان “لن يدخل في الدورة العنيفة، فقد تعلمنا دروسا قاسية عن نتائج العنف التي لن تؤدي إلّا إلى إحلال الفناء التام. يكفي أن نذكر ما حدث في الثورة السورية. لا نريد أن نكرّر هذه التجربة”.

وتجلى هذا الكلام على الأرض من خلال الحضور النسائي الطاغي على ساحات الثورة بداية من حضورهنّ في الصفوف الأمامية، وهن يحملن الميغافونات ويهتفن بأصواتهنّ، وينظمن المجموعات في حضور أولادهنّ معهنّ، ويبلورن حلقات النقاش وصولا إلى الوقوف سدودا منيعة بين المتظاهرين الذكور ورجال الأمن ومكافحة الشغب حتى لا يتم الاصطدام الدموي بين الاثنين.

ولعبت النساء دورا أساسيا في إنجاح الاحتجاجات، فعندما عمد المحتجون إلى قطع الطرقات وسيلة للضغط على الحكومة، حاولت الشرطة عبثا فتحها بسبب وجود المشاركات اللواتي اصطدمن جسديا مع مكافحي الشغب. والأمثلة كثيرة جدا عن دور النساء اللبنانيات ومن جميع الأعمار في الإبقاء على الثورة بطابعها الأنثوي.

في هذا السياق تبدو لنا لوحة بوتيتيشيلي من النظرة الأولى، وهي تقيم تقابلا وتوازنا أفقيا بين الاثنين: مارس إله الحرب وفينوس آلهة الحب. في ذلك يُمكن اعتبار التركيب الذي قدّمه الفنان في اللوحة “ثوريا” في حد ذاته، لأنه ساوى بين الأنثى والرجل في أقصى تجلياتهما، أي الألوهية.

وتحيلنا هذه الفكرة إلى ما شُبهت فيه الثورة اللبنانية على لسان إحدى الناشطات اللبنانيات “ثورتنا أنثى تؤمن بالسلمية حتى تحقيق المطالب وهي ثورة أفقية، ليست هرمية برأس واحد”.

ومع إصرارها على الحفاظ على سلمية المظاهرات كانت للمرأة اللبنانية حقوق تريد انتزاعها في وجود كمية من القوانين المجحفة من الأحوال الشخصية الطائفية والعنف الأسري وقانون الجنسية وغيرها، وكانت صرخة “فليسقط حكم المصرف” وكيل الشتائم والسباب الذي كان حكرا على الذكور، موقفا صادحا ضد الوصاية الأبوية.

وكعاجية بشرة فينوس الشبيهة جدا بعاجية بشرة مارس، والشبه في كون كليهما مثالين لجمال فائق قابل ما بينهما دون أن يجعل منهما متشابهين حتى الذوبان، تشابهت الثورتان، اللبنانية والعراقية، من حيث المطالب.

أما تزامن نمو الثورتين فهو دليل آخر على اتصالهما العضوي بالمسببات والنتائج التي لا تزال غامضة إلى اليوم، غموض اللحظة المُقلقة التي قد يستيقظ فيها “مارس” بوتيتيشيلي في لبنان وتنام فيها فينوس أمام جبروت “مارس” في العراق.

عن العرب الدولية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button