“صفقة القرن” على مرمى حجر… أية سيناريوهات للأردن؟* عريب الرنتاوي

النشرة الدولية –

ما أن يجد هذا المقال طريقه للنشر، حتى تكون إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب قد كشفت رسميا (أو على وشك أن تكشف) عن مبادرتها لحل قضية الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي، والمعروفة إعلاميا باسم “صفقة القرن”… المبادرة/الصفقة التي طال انتظارها، وتأجّل الكشف عن مضمونها المرة تلو الأخرى، من المتوقع أن تثير عاصفة من ردود الأفعال المؤيدة والمتحفظة والرافضة.

الأردن، مثله مثل الفلسطينيين، ينتظر الكشف عن الصفقة بفارغ الصبر، وسط مخاوف عميقة تنتاب الأوساط السياسية والإعلامية، الرسمية منها والشعبية، من مغبة أن تفتح هذه “الصفقة” الباب على مصراعيه، لحلول نهائية على حساب الأردن تطاول أمنه واستقراره وهويته الوطنية وكيانيته، بعد أن تكون قد ضربت حلم الفلسطينيين وتوقهم للعودة وتقرير المصير وبناء الدولة المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية.

في مرة سابقة، وفي هذه الزاوية بالذات، حاولنا أن نجيب على سؤال: لماذا يخشى الملك صفقة القرن؟، وقلنا في حينة أن أسبابا رئيسة ثلاث تعزز خشية الملك وتعمق مخاوف الأردنيين:

يبدو من المرجح أن الأردن سيختار سيناريو “التكيف”

1 ـ ترك الأردن وحيدا لمعالجة ملف اللجوء الفلسطيني الثقيل، ومن دون أملٍ في العودة أو التعويض، وإرغامه على منح جنسيته لأكثر من مليون فلسطيني في الأردن لا يتمتعون بها…

2 ـ الضغط على الأردن في مرحلة لاحقة أسمينها “المرحلة الثانية من صفقة القرن” للعب دور لا يريده في رعاية مصائر أكثر من ثلاثة ملايين فلسطيني يقيمون على ما تبقى من الضفة الغربية، وفي إطار كيان أقل من دولة بكثير، وأكثر من حكم ذاتي بقليل…

3 ـ انتهاك الرعاية الهاشمية للمقدسات الإسلامية في القدس، وبالأخص في المسجد الأقصى المبارك.

أية سيناريوهات تنتظر عمان؟

اليوم، وعلى مبعدة أيام وساعات من الكشف عن الصفقة، لا يبدو أن لدى عمان من (أو ما) يطمئنها… إدارة ترامب اختارت التشاور مع رئيس الحكومة وزعيم المعارضة في إسرائيل بصدد الصفقة، ولم تجد حاجة ملحة لإبلاغ أي جانب عربي أو التشاور معه بشأنها، لكأن مخرجات عملية السلام التي يرعاها الرئيس ترامب، هي ثمرة مفاوضات أميركية ـ إسرائيلية، وليس مفاوضات عربية (فلسطينية) إسرائيلية برعاية أميركية… الجانبان الفلسطيني والعربي بديا مهمشين تماما، إن في مراحل التحضير للصفقة وإعداد مسوّداتها الأولى، أو عشية الكشف عنها في صيغتها النهائية.

الأردنيون، على مستوى النخب السياسية والفكرية والاجتماعية، منهمكون هذه الأيام في استطلاع سبل ووسائل التعامل الأردني مع هذه الصفقة عند أو بعد الكشف عنها… والسجالات والحوارات بشأنها، تتسم بالانفعال والقلق والتوتر في غالب الأحيان… ومن يصغي جيدا لما يكتب، وبالأخص لما يقال خلف أبواب الغرف المغلقة، يستطيع تلخيص هذه الخيارات والبدائل بأربعة سيناريوهات رئيسة:

الأول؛ ويمكن تسميته بـ”سيناريو المواجهة”، كأن تقرر الدولة الأردنية أن هذه الصفقة التي تهدد أمنها واستقرارها وهويتها وكيانها الوطنيين، لا تترك لها سوى خيار “المواجهة”، كأن يعلن موقف رسمي قاطعٌ في رفضه للصفقة، رافض للتعامل معها أو التعاون في تطبيقها… محرضا المجتمعين العربي والدولي على رفضها وعدم الانجرار وراء مراميها…

مثل هذا السيناريو يبدو شديد الكلفة على الأردن، الذي تتميز علاقته بالولايات المتحدة بـ”الاعتمادية الكاملة” بوجود 1.7 مليار دولار مساعدات أميركية سنوية للأردن، وبوجود قدر من “الاعتمادية” الأمنية والاستراتيجية على إسرائيل، وإصرار الدولة بتوجهاتها الرئيسة والاستراتيجية على البقاء في السرب الأميركي وعدم التحليق خارجه أو بعيدا عنه.

السيناريو الثاني؛ ويمكن تسميته بـ”سيناريو التكيف”، كأن تبدأ القيادة الأردنية في البحث عن “نصف ممتلئ” من كأس الصفقة الأميركية، لتبني على الشيء مقتضاه، ساعية إلى بذل ما بوسعها من جهد، لتطوير هذه الصفقة بما يقربها من صيغة من صيغ الحد الأدنى لـ”حل الدولتين”، مضافا إليه قليلا من التعويضات، إن لم يكن للاجئين الأفراد، فللدولة المضيفة لهم، وهي هنا الأردن، الدولة التي تستضيف أكبر عدد من اللاجئين والنازحين و”اللاجئين النازحين”، يشكلون النسبة الأكبر من سكانه…

هذا السيناريو، المرفوض من قبل غالبية الفاعلين الأردنيين، ربما يكون الأقل كلفة على المدى الفوري والقصير الأجل، بيد أنها أكثر السيناريوهات كلفة على المدنيين المتوسط والبعيد، طالما أنه يبقي الباب مفتوحا لانقلابات في المعادلة الديموغرافية في الأردن، ولمحاولات استدراج الأردن إلى أدوار لا يريدها في الضفة الغربية.

السيناريو الثالث؛ ويتمثل في “استمرار الحال على هذا المنوال”: الولايات المتحدة تمنح المزيد من الأضواء الخضراء لسياسات ومشاريع التوسع الاستيطاني، وتدير ظهرها لكل المبادرات الرامية استنقاذ عملية السلام وفقا لمرجعياتها التي انطلقت منها في مدريد وأوسلو…

البعض يسميه “الستاتيكو”، لكن سياسات إسرائيل وإجراءاتها في القدس والضفة لا تعرف “الستاتيكو” فهي تواصل يوميا تغيير الوقائع القائمة على الأرض، وتقتطع مساحات منها لصالح الاستيطان في فلسطيني…

مثل هذا السيناريو، قد يوفر فرصة لصناع القرار في الأردن لتأجيل “لحظة الحقيقة والاستحقاق”، تأجيل الصدام والمواجهة، وتأجيل التخلي والتكيف مع مشروع لا أحد في عمان على الإطلاق، يرى فيه أية بارقة أمل للمستقبل.

السيناريو الرابع؛ هو سيناريو الانجراف، كأن يجد الأردن نفسه منجرفا إلى أتون من المواجهات الحادة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، تتطاير شراراتها على الداخل الأردني، وتمتد بتأثيراتها لتطاول أمن الأردن واستقراره، وتسهم في تعميق الفجوات القائمة، سواء بين الدولة ومواطنيها أو بين شرائح المجتمع الأردني نفسه…

هذا السيناريو قد يصبح ضاغطا ومرجحا بوصفه رجع صدى لما يمكن أن يحدث في الضفة الغربية من انزلاقات أو في حال حدوثها.

لا خيارات سهلة أمام صنّاع القرار في الأردن، ليس لأن الأردن مجرد من هذه الخيارات، بل لأن صناع القرار لم يتحسبوا ليوم كهذا، ولم يتخذوا من السياسات والإجراءات ما من شأنه تقليص اعتمادية الأردن على الخارج، وتعزيز جهاز المناعة الوطنية ـ المجتمعية، وتنويع علاقاته الخارجية في الإقليم وعلى الساحة الدولية…

وعلى الرغم من أن الأردن يعيش منذ زمن مناخات تآكل حل الدولتين، ويطل عليه شبح صفقة القرن، بل ويجري ترجمة مضامينها على الأرض أمام ناظرينا، إلا أن الأردن يتصرف كما لو أنه تعرض لمفاجأة من عيار ثقيل، أو لكأن الأحداث قد داهمته وهو على غير استعداد.

من بين مختلف السيناريوهات المذكورة سابقا، يبدو من المرجح أن الأردن سيختار سيناريو “التكيف” مع مبادرة الرئيس دونالد ترامب، وثمة شواهد في السياسة والممارسة على ذلك، لا تقلل من شأنها الانتقادات اللاذعة التي توجه لهذه الصفقة في الإعلام الأردني، والتحفظات المتكررة عليها كما تستطبنها تصريحات كبار المسؤولين…

“نظرية نصف الكأس الملآن” من الصفقة، تحمل معنى التكيف، والتصريحات “المُضَخِمَةِ” لأثر المساعدة الأميركية على حياة المواطنين، تندرج في هذا السياق، والشكوى من أن الأردن يقف وحيدا في مواجهة هذا الصفقة، تبدو نوعا من التحضير لمرحلة تالية، سيجري فيها القول، لقد فعلنا ما بوسعنا، ولا حمّل الله نفسا إلا وسعها، وعلينا أن ننتبه إلى مصالحنا لأن أحدا لن ينتبه إليها أو يبدي اهتماما بها.

لا مؤشر على أن الأردن ذاهب إلى “سيناريو المواجهة”، إذ بدل تقليص اعتماديته على الولايات المتحدة، رأينا حكومته تعزز اعتماديته على إسرائيل من خلال إصرارها على إتمام “صفقة الغاز”، واستمرار التنسيق الأمني، بل والدعوات رفيعة المستوى لاستئناف الحوار بين الأردن وإسرائيل، والتقليل من شأن التصريحات التي تصدر عن قادتها بشأن ضم غور الأردن وشمال البحر الميت، وربطها بـ”البازار الانتخابي” في إسرائيل، وعدم النظر لها بوصفها تعبيرا عن أولوية الدولة والمجتمع في إسرائيل بعد كل الانزياحات صوب التطرف الديني والقومي التي اجتاحت إسرائيل على نحو منهجي منظم على امتداد السنوات العشرين الفائتة.

وسيجد الحكم والحكومة في الأردن في تآكل الحالة الفلسطينية وضعف الموقف العربي وتفسخه، “ظروفا مواتية” لتمرير “سيناريو التكيف” بأقل قدر من ردود الأفعال الشاجبة والمنددة، إذ ليس ثمة ما يشير إلى أن رام الله أو معظم العواصم العربية (حتى لا نقول جميعها) بوارد اعتماد سيناريو المواجهة مع صفقة القرن، وأقصى ما يمكن انتظاره من القيادة الفلسطينية، هو العودة إلى التصريحات المهددة والمتوعدة ذاتها، والتي لم تعد تجد من يقرأها وليس من يتأثر بها أو يحسب حسابها.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى