صفقة القرن لا تستقيم مع أدبيات قرن* طوني فرنسيس

النشرة الدولية –

لم يعتقد أحدٌ ممن شاهدوا الحفلة التي أُعلنت خلالها (صفقة القرن) أن ما يراه ويستمع إليه يمكن أن يرقى إلى مستوى الحقيقة والواقع.

حضر الضيف بنيامين نتنياهو وإلى جانبه أركان في الحكومة الإسرائيلية وأركان المعارضة أيضاً، وانضموا إلى فريق كلَّفه رئيس الولايات المتحدة دونالد ترمب بتقديم تفاصيل الصفقة، يترأسه صهره ومعه نخبة من أنصار إسرائيل.

في هذه الحفلة التي استضافها الرئيس ترمب في البيت الأبيض جرى التبرع في غياب الفلسطينيين، أصحاب العلاقة، بمعظم الضفة الغربية إلى سلطة الاحتلال الإسرائيلي، وضُمَّت المستوطنات المُقامة فيها إلى الدولة العبرية، وكُرِّست القدس مدينة موحدة تحت سيادة إسرائيل.

حتى في منامه، لم يكن أي مسؤول إسرائيلي يجرؤ على الحُلم بما وعد به ترمب، وبدا للعالم أن الرئيس الأميركي إنما يحقق أفضل أمنيات نتنياهو التي أعلنها في مطلع تسعينيات القرن الماضي لدى رفضه اتفاقيات أوسلو.

وجرى تحليل الموقف، استناداً إلى حاجتين، واحدة لدى نتنياهو، وأخرى لدى ترمب. نتنياهو يطمح إلى الخروج من دائرة اتهامه بالفساد، والفوز في الانتخابات العامة الشهر المقبل، وترمب يعمل لتقوية موقعه في مواجهة محاولات عزله، استعداداً لمعركة الولاية الثانية في الخريف، وهو إذ يسعى لضمان دعم اليهود من أنصار إسرائيل، يطمح إلى كسب شريحة الإنجيليين الجدد الأكثر تعصباً لإسرائيل من يهود أميركا أنفسهم .

يجب الاعتراف بأن الاهتمام العربي والدولي بالقضية الفلسطينية تراجع منذ مطلع الألفية الجديدة ورحيل ياسر عرفات أول رئيس للسلطة الوطنية الفلسطينية، والضربة الأبرز للقضية جاءت في (انقلاب غزة)، الذي نفّذته فصائل أعلنت ولاءها للإخوان المسلمين وإيران في آنٍ.

كان ذلك الانقلاب في ربيع 2007 فاتحة تحرّك جديد لتنظيمات إيران والإخوان بعد التحريك المُلتبس لطهران لجبهة لبنان، ما أدّى إلى حرب تموز (يوليو)، التي دمّرت خلالها إسرائيل البنية التحتية اللبنانية، وقتلت مئات المدنيين، قبل أن يجري التوصل إلى القرار 1701 الصادر عن مجلس الأمن، الذي أناط أمن الحدود اللبنانية الإسرائيلية للمرة الأولى منذ 1975 بالجيش اللبناني والقوات الدولية.

كانت معركة الانفصال في غزة إشارة أولى إلى سياسة ما سيعرف لاحقاً بمحور إيران الممانع على الضفة الشرقية للمتوسط، بعدها بقليل حاول تنظيم مُستحضر باسم (فتح الإسلام) يقوده أحد عناصر المخابرات السورية، السيطرة على مخيم نهر البارد للفلسطينيين في شمالي لبنان، والتمدد منه للسيطرة على مدينة طرابلس.

كلفت المحاولة اللبنانيين والجيش اللبناني كثيراً من التضحيات قبل القضاء عليها، إلا أن المراقبين لاحظوا أن ترابطاً ما قائمٌ بين محاولتي غزة وطرابلس، خيوطه في طهران وربما في دوائر أخرى، كانت تستعد لما سيجري في السنوات اللاحقة .

اندلع (الربيع العربي)، فتقدّم الإخوان إلى الواجهة في تونس، وفي مصر قفزوا إلى السلطة، ليظهر (إخوان غزة) وكأنهم أسيادٌ في أرض الكنانة، أمَّا في سوريا والعراق ففتحت السجون أمام معتقلين، سيتحوّلون إلى (قادة جهاد)، يستدعون لمحاربتهم مجاهدين من مذهبٍ آخر.

وسرعان ما انتشرت في البلدين ميليشيات إيران المُستحضرة من أفغانستان ولبنان برعاية وقيادة (فيلق القدس) في الحرس الثوري الإيراني، لتخوض حروباً باسم محاربة الاٍرهاب بشعارات مذهبية تزيد في تمزيق مجتمعات دول المشرق العربي، وتُغرقها في تفاصيل الهموم الحياتية الأمنية والمعيشية .

تحوَّل المشرق العربي من شط العرب إلى البحر المتوسط، ومن طوروس إلى اليمن، إلى ساحة اقتتال بمشاركة وإدارة نشطة من قطبي “الإسلام السياسي” الحديث: إيران الخامنئي وتركيا أردوغان.

وفي مناخٍ كهذا، تراجع الاهتمام بالاحتلال الإسرائيلي لفلسطين إلى حدوده الدُّنيا، وتحرَّكت إسرائيل في أجواء المشرق بحرية، فانتقت أهدافها مستندة إلى حليفها الأساسي أميركا وحليفها الميداني الجديد روسيا.

ورغم توجيهها مئات الضربات إلى مواقع إيرانية في سوريا والعراق، فإن الانشغال الإيراني بقي مُنصباً على توطيد المواقع في سوريا والعراق ولبنان واليمن، والاكتفاء بخطابٍ سنويّ مُزلزلٍ عن تحرير القدس .

لقد سارت إيران بعيداً في تحدي الشعوب العربية ودُولها، أوغلت في تحدي المصالح العربية بالخليج، وتورّطت في الاعتداء على دولٍ عربية، تحت شعار (الموت لأميركا والموت لإسرائيل)، ولم ترَ إسرائيل منها إلا “كل خيرٍ”، رغم خطابات التدمير النارية.

المؤسف، أن أطرافاً فلسطينيين استمروا مع ذلك في تورّطهم مع السياسة الإيرانية رغم معرفتهم بحقيقتها ومخاطرها على مستقبل فلسطين وشعبها .

في هذه المناخات التيئيسية، يمكن للمرء أن يتوقع الكثير، ولا شكّ أن ترمب اعتقدَ أن عمق الخلاف العربي مع إيران يسمح له بتمرير ما رأى أنه حلٌ لقضية بات عمرها مئة عام، إلا أن الوقائع غير ذلك.

صحيحٌ، أن ترمب والإدارة الأميركية يتمتعان باحترامٍ كبيرٍ في أوساط واسعة من القيادات العربية، يزداد مع ازدياد الحاجة إلى التعاون مع أميركا في مواجهة التحديات الكبرى في عصرنا ومنها التحدي الإيراني، إلا أن التفرد في “إهداء” فلسطين إلى نتنياهو على النحو الذي شهدته حفلة البيت الأبيض، لم يلق قبولاً على المستوى الدولي، فكيف بالمستوى العربي قبل أن نتحدّث عن رد الفعل الفلسطيني؟

لقد ظهر أن أكثر المواقف الدولية قرباً من ترمب، في أوروبا مثلاً، لا تزال مُتمسكة بحل الدولتين أو أقله بالقرارات الدولية الأساسية الخاصة بـ”نزاع الشرق الأوسط”، وصدرت مواقف في هذا الخصوص عن الاتحاد الأوروبي ودول أوروبية أساسية.

والموقف الروسي ينسجمُ مع هذه الوجهة، وقد حرص الرئيس بوتين على إبلاغ الرئيس محمود عباس شخصياً دعمه دولة فلسطينية عاصمتها القدس، والموقف هذا تتمسّك به الغالبية العظمى من دول العالم .

أمَّا الموقف العربي، ورغم حرص كثيرٍ من القادة على علاقات جيدة مع الرئيس الأميركي، فقد جرى التعبير عنه في اجتماع وزراء الخارجية في القاهرة: رفض الصفقة والتمسُّك بالمبادرة العربية لعام 2002.

لا ضرورة لليأس من الموقفَين العربي والدولي، فهما يختزنان تمسّكاً قديماً وثابتاً بمنطق الحق والعدالة، وهو ما تتميز به قضية الشعب الفلسطيني، إلا أن العامل الحاسم في الوجهة التي ستتخذها الأحداث لاحقاً، هو الموقف الفلسطيني نفسه، فلا شكّ أن سنوات الانقسام والاقتتال والارتهان أضعفت هذا الموقف إلى الحد الأقصى، وعودة الوحدة اليوم بوجود القيادات الفلسطينية كلها داخل بلدها أمر عظيم، وميزة تفضيلية لم تكن متوفرة في سنوات النضال السابقة .

على هذه الوحدة بالذات ينعقد الرهان، فهي ما ستتيح لنا القول إن الصفقة ماتت، أو أن فيها بقايا استمرار، أي الإغراق في الهزيمة.

نقلاً عن اندبندنت عربية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button