جوقة في السماء* بروين حبيب

النشرة الدولية –

تولد الطفلة بمرض الاستسقاء الدماغي، فيتخلى عنها والدها، بل يبعدها هي وأمها عنه بمسافات. من دولة إلى دولة تحمل الأم ابنتها، وتعجز عن التوفيق بين العمل لتوفير قوتهما معا، والبقاء إلى جانبها لرعايتها، فتقرر هي الأخرى أن تتخلى عنها لتعيش، تمنحها لعائلة تتبناها. الطفلة اليتيمة بأبوين ينعمان بالحياة ستعيش عدة سنوات ثم تموت في الثامنة من عمرها، تقام لها مراسيم الدفن في بلد احتضن جسدها الصغير، الذي اتعب منجبيها ولم يُتعب العاطفين عليها، قبل أن تتحوّل لمادة روائية لكاتبة نالت بها جائزة أدبية مهمة.

أي أب، وأي أم هؤلاء؟

إنهم نوع من أولياء الأمور المفرغين من روح المسؤولية، ونحن في الغالب نمقت هذا النوع من الرجال والنساء حدّ الاحتقار.. لكن ماذا لو عرفنا أن هذا الأب ثائر من أشهر الثوار على الظلم والديكتاتوريات في العالم؟ ماذا لو عرفنا أنه شاعر الثورة والرومانسية؟ وماذا لو عرفنا أنه بابلو نيرودا العظيم نفسه؟

تحكي رواية «مالفا» للكاتبة الهولندية هاخر بيترز، قصة هذه الفتاة ذات الجسد النحيل الذي لا ينمو، والرأس الضخم الممتلئ بالسوائل، مستعينة بمخيلتها وروحها الخاشعة في عناق طويل مع روح الراحلة، بدون ضغينة أو عتاب، تسرد وقائع مأساوية، بلغة جعلتها المترجمة التونسية لمياء المقدم، سيلا من الشعر النثري الجميل.

الرواية مستفزة كونها تحكي عن جانب كنت أجهله عن بابلو نيرودا، الذي افتتنت بشعره منذ أيامي الجامعية المبكرة، هو الدائم الحضور في روحي بقصيدته التي يقول فيها: «يموت ببطء من لا يسافر، يموت ببطء من لا يقرأ، يموت ببطء من لا يستخدم عينيه». وقد زاد عشقي له حين شاهدت فيلم «ساعي البريد» في فترة بداية دراستي الجامعية في القاهرة عام 1994، حيث حضرت الفيلم في السينما، فأبهرتني شخصية الشاعر الكبير التشيلي سينمائيا، هو الذي يعلم ساعي البريد الرجل البسيط كيف يركب الاستعارات، ويدخله لعالم المجاز والحب من باب اللغة، ويكشف له أسرار التعامل مع المرأة، ثم أعجبني حينها كيف حلم ساعي البريد أن يصبح شاعرا، لكنه لم يفلح في ذلك، بل صار عاشقا.

الرواية التي كانت موضوع جلستنا في «الملتقى» – نادي كتاب عمره عقدان من الزمان في الإمارات، الذي تديره الصديقة أسماء صديق المطوع ـ كانت خيارا جيدا لتناول الأدب من وجهة نظر مختلفة عن القراءات الملتزمة بالمادة الأدبية كمادة ميتة. حين بدأت في قراءة الرواية، ذهبت إلى الشعر قبل الذهاب للبناء السردي، لهذا وجب أن أشيد بدور المترجمة، التي أبدعت في جعل النص معزوفة لغوية، خاصة أن سؤال الرواية أخلاقي محض، أي أنها لم تقع في فخ «المحاكمة»، خاصة أن موضوع «المبدع والأخلاق» موضوع طالما يحضر عرضا حين يُناقش موضوع «المبدع ـ النص» وهو غير بعيد عن أسئلتي خلال مسيرتي التلفزيونية، واحتكاكي بمئات المبدعين بعد خروجهم من إطار النص، أو الشكل الإبداعي الذي يمثلونه، كوني كنت أكتشف دوما الشخصية الأخرى، التي تختبئ خلف الواجهة الإبداعية، وهذا كان يحدّد طريقة تعاملي معهم، وكثيرا ما وجدت المفارقات الصادمة بين المبدع وأدبه، بين الكاتبة وكتاباتها، وهذا موضوع آخر، لا داعي لإثارته، لكنه يقرّب الصورة التي قدمتها هاخر بيترز في كثير من التّفصيلات المتناقضة في شخصية نيرودا مناصر المضطهدين والفقراء والمعوزين والمقهورين والمعدمين، الحامل لرسالة إنسانية عظيمة، بمتاع ضخم من الجمال والحب والشعر، ودروس في القيم السامية، والذي تخلى عن ابنته المريضة.

    تحضر أسماء كبيرة في نص بيترز، مثل لوركا، سلفادور دالي، وغيرهما، حتى أنها تعود بنا إلى سقراط، لتقريب صورة الأب العضوية بكل ما تحمله من روابط، المنقطع منها والمنقطع لأسباب أخلاقية..

الرواية التي تشبه الشعر، قصيدة تشبه الحكاية أيضا، تفتتحها الكاتبة قائلة: «نِعْمَ الأب أراد دائما أن يكون الديك!». هنا تأخذنا المترجمة إلى نص الكاتبة هاخر، بوهج قصيدة تشبه جذوة النّار، التي تقاطعت فيها مع ابنة نيرودا من خلال حكايتها مع والدها، لهذا تبدأ نصها السردي بافتتاحية شعرية تحيلنا إلى الديك رمز الذكورة، والفحولة، قبل أن تواصل «رفيق سفر، صديق المنتفضين على موجات التاريخ»، مستحضرة القاموس اللغوي للشيوعية، كون نيرودا رفيق الشيوعيين. مضيفة «مواقف خالية من الرصاص»، وكأن الكاتبة أرادت أن تقول إن الرصاصة الأقوى كانت حين أعلن نيرودا أن ابنته كانت «كائنا في منتهى السخافة، خفاش بوزن ثلاثة كيلوات، مسخ»، تستحضر تاريخ نيردا الأيديولوجي والسياسي، وخطاب الانتماء الذي فاخر به، وتضعنا في مواجهة «القصيدة – قصة قصيرة» التي تروي الأحداث وتختصرها، وكيف أن هذا الأب شبّه ابنته بالفاصلة المنقوطة «رأس كبيرة على جسد ضئيل» و كيف ألقى بها «في مدن ضبابية بعيدة، تلك التي رفعتها أمي إلى أعلى من أجل أن تنجبني، بئس الأب افتخرت به، لا ضوء يدخل، لا هواء ولا عالم خارجي، لا وجه أبوي أغفو عليه».

تسجل بيترز سيرة نيرودا بصوت «مالفا» بعد وفاتها، ووفاة نيرودا طبعا، تستحضرها، وتجعلنا نصغي إليها عبر رؤيتها الخاصة لأب شاعر، العالم بالنسبة إليه مجاز كبير، الحياة استعارات بلاغية، فهو «رب اللغة» كما وصفته الكاتبة، حتى في الفيلم، إذا عدنا إليه، يختصر ذلك، ألم يقل «بقية خطواتي تتحول إلى حيوان غير مقصود» الحيوان غير المقصود هي مالفا نفسها.

تبدأ الحياة في مدينة خودا في هولندا عام 1943، من لحظة دفن مالفا هناك، في جنازة حضرها عدد قليل من الناس، تختلف تماما عن جنازة والدها، التي حضرها الآلاف في سانتياغو بعد ثلاثين عاما من موتها، لكن الكاتبة تعيدنا إلى لحظات ما قبل موته في مستشفى سانتا ماريا، بعد معاناته من الهيستيريا، واصفة الحدث متقمّصة مالفا بقولها: «مات أبي بحق، مات جدًّا». ماذا قصدت بالموت جدا؟ يحتاج المتلقي إلى زاد كبير من الوعي والحساسية بقيمة التفاصيل التي طرحتها الكاتبة، وهي تستعير أصوات شخصياتها، لتتحدث مرة بصوت مالفا، وأخرى بصوت زوجة نيرودا المظلومة الغاضبة، التي عاشت تحت سقف زوج استخف بها، وهو يجلب عشيقاته إلى البيت، ثم حرمها حتى من ذلك السقف، لتجد نفسها في مواجهة العراء وطفلة مريضة معلّقة في عنقها.

تحضر أسماء كبيرة في نص بيترز، مثل لوركا، سلفادور دالي، وغيرهما، حتى أنها تعود بنا إلى سقراط، لتقريب صورة الأب العضوية بكل ما تحمله من روابط، المنقطع منها والمنقطع لأسباب أخلاقية… كما تخلق فسحة للمقارنة بين مشاهد حياتية عديدة أبطالها مشاهير تخلُّوا عن أبنائهم، الذين تصفهم بجوقة في السماء، لوسيا المنفصمة ابنة جيمس جويس، دانيال المصاب بمتلازمة داون لآرثر ميللر، كما تستحضر شخصية أوسكار الشهيرة في رواية غونتر غراس. تحفر في أعماق مخيلتها، وأبحاثها فتخبرنا كيف ابتدع نيرودا إسم مالفا، «بقدر جمال اسمي كان قبحي» مالفا هي زهرة قرب البحر في تشيلي، وهي زهرة عشبة الجبنة الصغيرة في هولندا، نبحر في معاني الاسم وأبعاده واختلافاته من مجتمع لآخر.. قبل أن تضعنا أمام حقيقة مؤلمة، مالفا عاشت بدون أن تنبس بكلمة، ولم تر من الحياة غير سقف الحجرة التي عاشت فيها، لكنها تحوّلت إلى رواية فيها الكثير مما أخفاه الصمت.

يعتب النقاد على الكاتبة لماذا تمدح الأب بعد موته؟ حين تبرر مالفا تخليه عنها قائلة «كل لحظة ينفقها لأجلي هي لحظة ضائعة من عمر الأدب والخلود». كيف تبرر له هو القائل «إن فتحت النافذة ذات يوم، ورأيت قتيلا ووردة، أليس من المخجل أن أكتب شعرا في الوردة؟» ألم يخجل من التخلي عن ابنته المعاقة حتى لا تشوه مسيرته؟ كم كبير من التراجيديا والكآبة في الرواية، نسيج كبير أسود تزينه دانتيلا من الشعر، وفضاء موازٍ هو فضاء العالم السماوي، الذي يلتقي فيه الأطفال الذين تخلى عنهم آباؤهم، والذين استحضرتهم كما استحضرت معهم شخصيات أحبتها مثل الكاتبة البولندية صاحبة نوبل فيسوافا شميبوريسكا (توفيت عام 2012) التي ترى فيها جدتها الشرعية، فتلتقيها في قاعة الطعام في ذلك العالم الجميل.

النصف الأول من الرواية جال بنا في عالم من المتعة، قبل أن تبدأ رتابة الجزء الثاني لتجعل وتيرة السرد تختلف، لكنها مفعمة بالأسئلة والأجوبة التي يمكن أن تخطر على بال القارئ الأخلاقي لنص يروي جانبا من سيرة شاعر بخطيئة بحجم خطيئته. يسأل سقراط في لقائه الافتراضي بنيرودا: «كيف تتخلى عن ابنتك؟» فيجيبه: «ولماذا اخترت السم وتركت كل أولادك وعائلتك؟ نقف عند القناعة الغامضة التي لا تفضي إلاّ إلى مزيد من الحيرة، لكننا نتعاطف مع مالفا، منذ لحظة تكونها في لحظة شبق بين والديها في فراش محموم بالرغبة، إلى انتهاء ذلك الفراش إلى مقبرة يتهم نيرودا زوجته بصنعها، ما يبرر به تفريغ غرائزه في أجساد أخرى…

«مالفا» أكثر من رواية، نص يفوق التصنيف، وهو حتما ينتمي لنوع جديد بدأ بالبروز في العالم، مستقرئا ما خفي من حياة العظماء. الرواية صادرة عن منشورات الساقي، بيروت.

 

٭ شاعرة وإعلامية من البحرين

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button