حياة تصلح لأن تكون أغنية* لمياء المقدم
النشرة الدولية –
أحب أن أسمع الأغاني وأنا أطبخ، لكن ذلك يتوقف على نوع الأكلة التي أعدّها. فمثلا لا أسمع أم كلثوم أبدًا وأنا أطبخ الباستا، كما لا يمكن أن أستمع لفيروز أو عبدالوهاب أثناء طبخ الكسكسي. في المقابل أَجد نجاة الصغيرة مناسبة جدا للسمك، وعفاف راضي للسلطات بأنواعها، وليلى مراد لسلطة الكروفيت تحديدا، أما أسمهان فمذهلة أثناء إعداد أكلات جديدة لم يسبق تجريبها.
أسمع الأغاني أيضا وأنا أركض في الحديقة العمومية أو في قاعة الجيم. تساعدني أم كلثوم، “عودت عيني على رؤياك” تحديدا في حرق 600 من الحريرات دفعة واحدة، “رق الحبيب” أو “حبيبي يسعد أوقاته” بإمكانهما أن يجعلاني أرفع الأثقال.
عندما أنظف البيت، أستمع للأغاني، صعودا ونزولا مع الدرج، أتنقل من غرفة لغرفة أرفع الصحون والأكواب التي يتركها الطفلان مرمية على الأرض أو تحت الأسرة ولولا صوت صباح المدلل في أذني وهي تردد “عاشقة وغلبانة” أو سناء موسى “يا نجمة الصبح فوق الشام عليتي” لانفعلت وصرخت فيهما، لكن مع هذه الأصوات تتحوّل الأكواب والصحون إلى فراشات تحلّق في البيت.
أَجد محمد منير ومحمد حمام ومحمد نوح ساحرين بإيقاعهم النوبي الراقص وطريقة نطقهم للأهازيج الفلكلورية ذات المغزى العميق. بإمكان “صوت من بعيد ناداني” لمنير أو “أصل المحبة مش بالقول” لنوح أن تأخذانني إلى أبعد مما أتخيّل. أحب دائما تلك الأغاني التي تأتي من بعيد محمّلة بالذكرى والحنين.
الحنين أيضا مؤلم في أغاني سيدي علي الرياحي وصليحة اللذين غالبا ما أبدأ بهما الصباح، وعندما يردد علي الرياحي بصوته المبحوح “ونقول فرر فرررر وباقي نغني” يفرفر قلبي معه حرفيا، كأنه يرغب أن يقفز خارج صدري.
بعض أغان لا استمع لها أبدا وأنا واقفة أو بصدد عمل شيء ما. الأكثر من ذلك، هناك أغاني تجعلني أتوقف عمّا أنا بصدد فعله بمجرد أن تنطلق. يسبب لي ذلك بعض المشاكل أثناء قيادة السيارة مثلا. هذه الأغاني هي تلك التي تأخذ كل تركيزك ولا تقبل بأن تكون مجرد خلفية موسيقية بعيدة. تتميز هذه الأغاني بقوة كلماتها وعمق ألحانها وقدرتها على تحريك مخيلتك وفكرك، منها مثلا أغاني الشيخ إمام “أنا أتوب عن حبك أنا!” أو “حلوا المراكب” وأغاني سيد درويش الخالدة. من منّا يستطيع أن يقود السيارة وهو يستمع لـ”الحلوة دي” أو “أهو ده اللي صار”.
أغان أخرى أسمعها فقط في الفراش، لأسباب تبدو لي غير واضحة حتى الآن. ذكرى محمد رغم صوتها القوي إلا أنني اُنصت إليها كمن سرقها من محل ما، وحدي دائما وبصوت منخفض كأنه الهمس. ربما -أفكر الآن- لأنني أخاف أن يكتشف أحدهم وجودها فيأتي لقتلها مرة أخرى! في البانيو أيضا أسمع الأغاني. أضع الهاتف على حافته وأغرق في الماء إلى أن تنتهي الأغنية فأخرج ذراعي والتقط الجهاز لأختار التي تليها. وعندما تتوقف الموسيقى ينتهي الاستحمام. لم يحدث أبدا أن وقع الهاتف في الماء إلى حد الآن لكنني منذ أعوام أتوقّع أمرا كهذا في أيّ لحظة وأخذت عهدا على نفسي ألا أحزن، فقد حصلت على مقابل من الفرح والبهجة يعادل آلاف المرات قيمة الجهاز. في الأثناء لاحظت أنني أصبحت أعاني من تصلّب وتنميل في أصابع يدي اليسرى بسبب التمسك الزائد والضغط اللاواعي على الجهاز في الماء.
أعرف أنني نسيت أسماء وأغاني كثيرة، هي الأقرب إلي ربما، فنحن دائما ننسى الأقرب إلينا، أو كما تقول نجاة الصغيرة “القريب منك بعيد والبعيد عنك قريب”، وهي غالبا تلك الأغاني التي نسمعها من أجل النسيان، التذكر، الشوق، الحلم، الفقد، وهي أيضا تلك التي نسمعها بين حزن وفرح وبين لقاء ووداع، وبين ذهاب وعودة وبين نهاية وبداية..
مؤخرا بدأت أفكر جديا في وضع قائمة بالأغاني والأصوات التي أرغب في أن أسمعها بعد موتي والتي أحب أن أحمل إلى قبري على أكتافها. سيكون من بينها صوت محمد عمران وهو يتلو سورة “يوسف” (اسم ابني الصغير)، ولكن أيضا، سأحب وبقوة، أن أسمع العظيمة أم كلثوم وهي تردد “كان لك معايا أجمل حكاية العمر كله، سنين ومرت زي الثواني في حبك انت” ثم بعدها لن يهمني أن أذهب وأنا أردد “ونقول فرررر فررر.. وباقي نغني”.