الفن ابتكار سحري لإسقاط جدران العزل* ميموزا العراوي

النشرة الدولية –

يكفي أن يُشيّد جدار عازل وعدواني على أرض أرهقها الظلم ولم تُبطل عزيمتها المشقات حتى يكون هذا الجدار دعوة للخيال البشري الفني، في قراراته، بأن يخترقه ثائرا بصدق ومنتصرا على الأرض كما في الخيال.

اليوم، وعند التأمل في الجدران الباطونية والأسلاك الشائكة والحواجز الحديدية التي شيدتها ولا تزال السلطة اللبنانية، حتى لحظة كتابة هذا المقال، في وجه الثوار اللبنانيين، تحضرني رغبة في مقاربة ما بين صورتين فوتوغرافيتين وفنيتين، إحداهما من معرض سابق للمصوّر الفوتوغرافي التشيكي جوزيف كوديلكا، والثانية لعمل فني حققته الفنانة اللبنانية رولا عبدو مؤخرا على جدار الفصل الذي شيّدته الحكومة اللبنانية لتعزل المتظاهرين الثوار عن سرايا الحكومة ومجلس النواب.

الصورة الأولى المقصودة هي من معرض جوزيف كوديلكا عنوانه “الجدار”، حيث تناول المصوّر من ناحية، الجدار العنصري الذي بنته إسرائيل، ومن ناحية أخرى بيروت في نهاية الحرب الأهلية وجدرانها المُعبّرة عن عزلة داخلية تخص أهل البلد هشمتها الشظايا والرصاص.

أما الصورة الثانية، فهي من عمل للفنانة اللبنانية رولا عبدو تتمثل في يدين متقابلتين تحاولان شق “جدار العار”، كما جرى على تسميته، لكي تسمحا “سحريا” للثوار بالدخول إلى الساحات العامة التي منعتها عنهم السلطة.

ليس بعيدا عن تلكما اليدين، كتب أحد الثوار “هذه ليست فلسطين المحتلة”، دامغا بتلك الكلمات على حق الحصول على “تأشيرة الدخول” لكل لبناني شريف ثار وتغذّى خياله على فنية ثورة اجترحت ألوانها من تناقضات هائلة استطاعت إلى اليوم الانتصار عليها وعلى كل الفخاخ المنصوبة لها.

يتلاقى العملان، صورة جوزيف كوديلكا، وصورة رولا عبدو في خرقهما السحري للجدران ورمزيتها، انتصارا قادما لكل من رُفعتا ضده.

الصورة الأولى والتي هي الأجمل على الإطلاق من مجموعة المصوّر جوزيف كوديلكا، بدت يوم عرضها، وعن بعد في الصالة الرحبة، وكأنها مشغولة ديجيتاليا.

لكن عندما اقتربت منها اكتشفت أنها ليست كذلك البتة. فما بدا في البداية كأنها نجوم افتراضية رصّعت سماء ليلية انسكبت على حدود المنشآت المعمارية، ليست إلاّ صفائح سوداء اخترقتها رصاصات وشظايا حقيقية صانعة من البعُد الجاثم خلف الجدار فضاء مفتوحا على زمن ومزاج آخر أقل تشاؤما. صورة هي رؤية أكثر منها صورة استعراضية تريد أن توثّق جرحا كان وانتهى.

في صورة جوزيف كوديلكا انتصر الواقع المحض، المُتمثل في صفائح معدنية مُعتمة اخترقها الرصاص، على الوهم المُتمثل في نجوم افتراضية مُتخايلة انهارت عندما اقتربت منها في صالة العرض، ولكن هذا الانهيار، انهيار الوهم، حدث دون أن يغيّب بريق “النجوم” وأثرها الدامغ في النفس.

انتصر الواقع، غير المعدل ديجيتاليا، ولكن ليس خارج مزاج الخيال الذي فتح به الفنان/ المصوّر، مُستعينا بصدامية العتمة والضوء، أفقا امتد عميقا ما وراء الجدار وما وراء العتمة حيث رزح الضوء منتظرا مُريديه.

أما بالنسبة لعمل الفنانة رولا عبدو، فالصورة الليلية الفوتوغرافية التي اجتاحت شبكات التواصل الاجتماعي، هي أهم من العمل بأشواط. في هذه الصورة بدا العمل الغرافيتي لليدين المتوسطتين للجدار ليس أكثر من مفتاح سحري في مزلاج بوابة باطونية أفقية فُتحت جاعلة من الأرض جسرا أخذ شكل مساحة متوسعة ومتكونة صعودا، فلقاء مع سماء ليلية داكنة، ومرورا ما بين مباني وسط بيروت، ووصولا سحريا/ واقعيا إلى مبنى مجلس نواب الشعب، الممنوع عن الشعب.

صورة فوتوغرافية واجهت الواقع بالخيال ليس عبر جعله عنصرا منفصلا عنه أو احتمالا مختلفا عنه، بل عبر تصميمه في صلب المشهد الواقعي/ الغرائبي، الذي من دونه لا يستقيم “المنطق”، منطق الصورة، ولا منطق معنى الواقع الذي يعيشه اللبنانيون منذ أكثر من ثلاثة أشهر، أي منذ انطلاقة الثورة اللبنانية.

“ندعم الثوار، شرط أن لا يثوروا” تعبير يمت إلى عالم الجدران المنهارة سلفاً، كالتي ذكرناها آنفا، بقوة الخيال الخلاّق لواقع مختلف، وهو تعبير مُوثّق انتشر على صفحات التواصل الاجتماعي والأقرب توصيفا لما تشكل الثورة اللبنانية بالنسبة للسلطة. فالثورة مقبولة شرط أن لا تكون أساسا.

ولعل تعبيرا كهذا التعبير، الذي ليس هو إلاّ مجرد مثال على مئات التعابير الغرائبية التي واجهت بها السلطة الثورة، هو ما شحذ مخيلة أحد الثوار الفنانين في نشر صورة بالغة الواقعية عن جدار العار، وعليه ليس إلاّ هذه الكتابة العرضية “مجلس النواب الحرامية”.

كتابة تتوسط خطين أحمرين. تبيّن لاحقا بأن هذا الغرافيتي ليس إلاّ عملا افتراضيا تخايله أحد الفنانين/ الثوار مجهولي الهوية الفردية، بينما الجدار على أرض الواقع مشبع بأعمال غرافيتية مُختلفة تراكم بعضها فوق الآخر.

إنه ليس إلاّ جدارا خياليا/ بهلوانيا آخر، وهو تمثيل إضافي بجثة الجدار الحقيقي وإعدام قابلية صموده أمام ثوار “خلطوا” الواقع المرّ بالخيال المُحرّر واجترعوا الخلطة السحرية ترياقا بطعم الحصى المطحون ضد ظلامية السلطة الحاكمة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button