الرقص يحرر الجسد والفكر* لمياء المقدم

النشرة الدولية –

لو عاد بي الزمن إلى الوراء سأتعلم الموسيقى والرقص وأشياء كثيرة فاتني أن أتعلمها، ليس فقط بسبب الظروف المادية والاجتماعية التي كبرت فيها، ولكن أيضا لعدم وعيي بها وانتباهي لأهميتها.

عندما أرى فتيات صغيرات لا يفعلن شيئا سوى الجلوس في البيت بعد المدرسة وقضاء الوقت في اللهو على الإنترنت والتكلم مع صديقاتهن على الهاتف أحزن. أشعر أن كل فتاة تمر بهذه التجربة ستفيق يوما على ما أفقت عليه وستندم على الزمن الذي ضاع دون أن تدرك قيمة الفن والمعرفة.

أحب الرقص بجنون. أشعر معه كأن جسدي يخف ويطير وأنه يقاوم الجاذبية والزمن في آن واحد. تعلمته في كبر، بدأت بدروس في البيت خلف جهاز اللاب توب وعلى اليوتيوب، وشيئا فشيئا انتقلت إلى البحث عن مدرسة خارجية للحصول على دروس جماعية. كنت قد تجاوزت الأربعين من عمري عندما فعلت ذلك. وفي كل مرة أفكر في هذا الجسد الذي يستعيد طاقته وحيويته وانطلاقه ومرونته رغم تقدمه في السن يتملكني الزهو.

عندما أرقص لا أشعر بسعادة فقط، لكن بالقوة والسيطرة على الأمور وأيضا، وهذا هو المهم، بالحرية. الرقص يحرر الجسد والفكر معا. امرأة ترقص هي امرأة قوية وعلى الجميع أن يخشاها.

رأيت مرة فيلما وثائقيا عن نساء شهيرات وعارضات أزياء انسحبت منهن الشهرة والمال فكن يتلقين دروسا في الرقص كوسيلة علاج وإعادة تأهيل وكانت تساعدهن على استعادة توازنهن وثقتهن في أنفسهن.

هل أبالغ عندما أقول إن طريق المرأة نحو تحقيق استقلاليتها وحريتها يبدأ من الرقص؟ تبدو علاقة المرأة بجسدها إلى حد الآن إشكالية وموسومة بالتبعية، فإلى جانب كل ما يثقلها ويشدها إلى الأسفل من موروث ثقافي وعادات وتقاليد، يأتي جسدها ليزيد من معاناتها.

امرأة رشيقة، رياضية وخفيفة، تسيطر على جسدها وعلى حركتها وتوازنها ونظام سيرها، لا تقول لمن يراها فقط، إنها قوية، ولكن أيضا إنها تفكر. السيطرة على الجسد دلالة على الفكر، لذلك عندما أرى فتيات صغيرات وصبيات مراهقات وشابات في مقتبل العمر يجررن وراءهن أجسادا ثقيلة رعناء، تشدهن إلى أسفل، أشعر بحزن حقيقي.

في مرحلة مبكرة من حياتنا لا ندرك ذلك، على الآباء في هذه الحالة أن يتولوا مهمة تنبيهنا إلى أهمية الرياضة والموسيقى والفن والرسم والغناء. المدرسة وحدها لا تكفي. لا بد من معارف ومهارات جسدية وفنية تدعمها وتكملها، يتربى عليها الأبناء ويكبرون على حبها.

ليس مهمّا أن نلتحق بمدارس مكلفة إذا لم تتوفر لنا هذه الإمكانية. المهم أن نتحرك، نتمايل مع الموسيقى الموجودة داخلنا وفي كل شيء من حولنا وأن نطوع جسدنا ونعوده على أن يكون تحت السيطرة وليس العكس.

قلت مرة لابني إن أفكارا كثيرة تراودني بعد الانتهاء من حصة الرقص، أفكار حول تجديد البيت، تغيير الأثاث، صبغ الجدران، شراء نباتات.. وأنني لا أعرف إن كانت لها علاقة بالرقص أم لا، لكن في اللحظة التي أتوسط فيها غرفة الجلوس وأطلق الموسيقى ثم أبدأ في تحريك ذراعي باتجاه السقف وهز كتفي ورمي بصري نحو الضوء أرى كل شيء فجأة ويراني.

لو عاد بي الزمن إلى الوراء، سأذهب لتعلم الجمباز، أفتح ساقي على وسعهما وأحتضن الكرة الأرضية بأكملها، أو الباليه، أمد ذراعي إلى أقصى الأمام وأقطف المستقبل، أو الرقص الشرقي، أهز بخصري وأدق بزهو بقدمي على العالم ليفتح بابه ويراني فيدرك كم أنا جميلة وكم الحياة تملؤني، أو الرقص العصري المتواتر ذي الإيقاع السريع لأمتلك الزمن وأتحكم في خيطه، أو السالسا والزومبا ليكون لي مد البحر وجزره وسحر  وغموض أعماقه. لو عاد بي الزمن إلى الوراء، لتعلمت كل هذا دفعة واحدة، ربما، وحلقت في الفضاء كفراشة لا يطالها الغبار.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى