العجز النّصّيّ عن تحقّق فعل الحرّيّة…. قراءة في نصّ للشّاعر الفلسطيني طلعت قديح* مادونا عسكر
النشرة الدولية –
– النّصّ:
مَنسِيٌّ
في غَياهبِ النّورِ
أطلُّ مِنْ مكانيَ الأثِيم.
أستعجلُ
أمرَ الخُروج.
بَريقُ الإشراقِ
كَصيحةِ الإصباحِ
آتيةٌ
ساعةُ أثقالِ الأنفس،
وفيء ظِلالها
تقلبُ النارِ
لباسُ دونَ جوعٍ أو خوفٍ،
والمتاعُ القليلُ
جُستُ خِلاله،
صرتُ
الذئبَ المَنسي.
– القراءة:
يفتتح الشّاعر نصّه بكلمة واحدة (منسيّ) معلناً عن شعورٍ بأسى عميق ووحدة مربكة وإحساس بالإهمال، دلّ على معناها ما تلاها من تضادّ في عبارتَي (غياهب النّور). فيبدو وكأنّه سجين في عالم فقد مقوّمات الحياة. هو عالم سودوايّ ممعن في ارتكاب الإثم والسّقوط في المعصية، حتّى أنّ النّور فيه استحال ظلاماً، ما يظهر وقع هذا العالم على نفس الشّاعر. لكنّه يبدو أنّه يستثني نفسه من العالم، أو يتوق إلى التّحرّر منه. وهو يستثني نفسه باستخدام الفعل (أطلّ) الّذي يدلّ على أنّه مشرف على عالم يراه أو يحسّه أو ربّما يتخيّله أو يهرب إليه. فالفعل (أطلّ) جعل من العالم الأثيم مكاناً مرتفعاً عن العالم الأفضل، ملاذ الشّاعر وحرّيّته. ولعلّ هذا الفعل خلق خللاً ما في الصّياغة الشّعريّة، أم أنّ الشّاعر خانته العبارة، لأنّه لم يختبر ذلك العالم الّذي ينتظر منه بريق الإشراق. فالاختبار الحقيقيّ لعالم الإشراق أو العالم النّورانيّ يفترض دلالات تدرّج صعوداً وترمز إلى العلوّ. من هنا يفهم القارئ أنّ الشّاعر يتوق إلى الحرّيّة، ولكن إلى عالم لم يختبره في عمقه وإنّما اختبره نظريّاً أو عاطفيّاً.
لقد عبّرت الجملة (أستعجل أمر الخروج) عن ضيق نفس الشّاعر إلّا أنّها أظهرت خللاً في الشّوق إلى الحرّيّة إذا ما ارتبطت بكلمة (منسيّ). كأنّ قيد الشّاعر الأساسيّ هو أنّه وحيد مهمل في هذا المكان الأثيم. وهو عمليّاً يتوق إلى التّفلّت من عالم أهمله إلى عالم يقوى فيه حضوره، لكنّنا نجهل ملامح هذا العالم أو تأثيره في ذات الشّاعر. ويبدو هذا الخلل أيضا في حديث الشّاعر عن الإشراق:
بَريقُ الإشراقِ
كَصيحةِ الإصباحِ
آتيةٌ
ساعةُ أثقالِ الأنفس،
وفيء ظِلالها
تقلبُ النارِ
لباسُ دونَ جوعٍ أو خوفٍ
والمتاع القليل
فالإشراق هو ظهور الأنوار الإلهيّة في قلب الإنسان، والصّوفيّون على اختلافهم يعبّرون عن هذا الظّهور حينما تصفو نفوسهم تماماً فيذوبون في الذّات الإلهيّة. لقد ورد عند ابن خلدون في شفاء السّائل: “إنّ كثيراً ممّن استحكمت فيه التّصفية، وبلغت بعد رفع الحجاب مبالغها، غَافَصَه إشراق أنوار التّجليّ والمشاهدة، عند امّحاء ذاته.” وفي قول الشّاعر (بَريقُ الإشراقِ/ كَصيحةِ الإصباحِ/ آتيةٌ) تعبير عن انتظار لا عن امّحاء. ولعلّ المشبّه به (صيحة الإصباح) أضعف معنى الإشراق، لأنّه بدا وكأنّه صخب أو عذاب يؤدّي إلى الهلاك إذا استندنا إلى الآية القرآنيّة في سورة الحجر الّتي يبدو أنّ الشّاعر يحيل القارئ إليها: “فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ”، ويشرح الطّبري قائلاً: “فأخذتهم صيحة الهلاك حين أصبحوا من اليوم الرّابع من اليوم الّذي وُعدوا العذاب، وقيل لهم: تَمتَّعوا في داركم ثلاثة أيّام.”
يعبّر الشّاعر في الجزء الأخير من النّص عن تحرّره، لكنّه يبدو تحرّراً بالقوّة لا بالفعل، إذ يعود ويختم النّصّ بلفظ (المنسيّ) ولكن هذه المرّة بصيغة المعرفة لا كما سبق وافتتح قصيدته بصيغة النّكرة. وهنا دلّ على ذاته المعروفة الّذي ربطها بلفظ (الذّئب) المعادلة لذات الشّاعر. وإن دلّ لفظ (الذّئب) على شيء فهو يدلّ على أنّ الشّاعر كان يطارد عالماً أهمله أو بمعنى أصحّ كان يحاول اقتناص مكانا له فيه ولسبب أو آخر شعر بالوحدة والإهمال فأنزل هذا العالم إلى ما دون ذاته الشّعريّة وأطلّ عليه من فوق، وانتظر تحرّره:
جُستُ خِلاله،
صرتُ
الذئبَ المَنسي.
قد يبدو أنّ الشّاعر قد تحرّر بالفعل، إلّا أنّ في عمقه الإنسانيّ أو في وعيه العميق لم يتحرّر بالكامل. لقد اختتم قصيدته بنفس اللّفظ الّذي كان سبب قيده (منسيّ/ المنسيّ) في البدء كان منسيّاً بالمطلق، ثمّ صار منسيّاً معروفاً وحمل معه هذا القيد بعد أن عبّر لنا عن تحرّره. فهو لا يريد أن يكون منسيّاً بل يتوق إلى حضور أقوى وأشمل. “ومن هذا الّذي يقدر على تحمّل الإحساس بأنّه راح في طيّ النّسيان”، كما يقول ويستن هيو أودن.