حسناء التنس “ماريا شارابوفا: حان وقت الاعتزال بعد 28 عاماً و36 لقباً وجسدٍ لا يرحم
النشرة الدولية –
كيف تتركين خلفك الحياة الوحيدة التي لم تعرفي غيرها؟ كيف تغادرين الملاعب التي تتدربين عليها منذ نعومة أظافرك؟ كيف تتخلين عن اللعبة التي تحبينها والرياضة التي وجدت فيها عائلةً وأصدقاء، بالإضافة إلى المعجبين والمشجعين الذين ساندوك لأكثر من 28 عاماً؟
هذا جديدٌ عليّ، لذا سامحوني من فضلكم.. يا لعبة التنس، أقولك لك وداعاً.
لكن، قبل أن نصل إلى النهاية، دعوني أبدأ من البداية. أول مرةٍ رأيت فيها ملعب تنسٍ كان أبي يلعب فيه. كنت في الرابعة من عمري في مدينة سوتشي الروسية، كنت ضئيلة الحجم للغاية إلى حد أن قدماي الصغيرتين كانتا تتدليان من على المقعد الذي أجلس عليه. كنت صغيرةً إلى حد أن المضرب الذي اخترته كان يعادل ضعف حجمي.
حين بلغت السادسة من عمري قطعت نصف العالم مسافرةً إلى فلوريدا مع أبي. كان العالم كله يبدو ضخماً آنذاك. الطائرة، المطار، واتساع أمريكا: كل شيءٍ كان مهولاً، مثلما كانت تضحية والديّ.
حين بدأت اللعب، دائماً ما كانت الفتيات على الجهة الأخرى من الشبكة أكبر سناً، وأطول قامةً، وأقوى بنيةً، وبدا لي عظماء التنس الذين أراهم على التلفاز منيعين وأبعد مما من الوصول إليهم. لكن شيئاً فشيئاً، وبالتدريب اليومي في الملعب بدأ ذلك العالم شبه الأسطوري يصبح حقيقياً أكثر فأكثر.
كان أول الملاعب الذي لعبت عليه خرسانياً صلباً غير متساو وذا خطوطٍ باهتةٍ. مع الوقت اقتحمت الملاعب الترابية، لكن الطين الموحل يغمرها، ثم ملاعب من أفخم أنواع النجيل الصناعي الذي يُمكن أن تطأه قدماك أبداً. لكن لم يخطر بأكثر أحلامي جموحاً أنني سأفوز في أكبر مسارح اللعبة، وعلى كل الأصعدة.
بدت ويمبلدون بداية مناسبةً. كنت فتاةً ساذجةً في السابعة عشرة من عمرها، ما تزال تجمع الطوابع، ولم أعِ حجم الفوز الذي حققته حتى كبرت، ولكم يسعدني أنني لم أفعل.
غير أن سر تفوقي لم يكن أبداً اعتقادي أنني أفضل من غيري من اللاعبات. لقد كان شعوري بأنني على وشك السقوط من أعلى القمة هو ما يجعلني أعود باستمرارٍ للملعب؛ لأتعلم كيف أستمر في التسلق لأعلى.
علمتني بطولة أمريكا المفتوحة طريقة التغلُّب على التشتيت والتوقعات. إن لم يكن بإمكانك التعامل مع هياج نيويورك، فالمطار ليس بعيداً.. إلى اللقاء أيها الرفيق.
ثم أخذتني بطولة أستراليا المفتوحة إلى مكان لم يكن من قبل جزءاً مني، إلى ثقةٍ مطلقةٍ يسميها البعض “في محلها”. لا يُمكنني حقاً شرحها، لكنها كانت مكاناً رائعاً.
كشفت الملاعب الطينية في بطولة فرنسا المفتوحة كل نقاط ضعفي، بدءاً من عدم قدرتي على الانزلاق عليها، وأجبرتني على التغلب عليها.. كان ذلك حلماً رائعاً.
كشفت تلك الملاعب جوهري الحقيقي. وبعيداً عن الصور وفساتين التنس الجميلة، فقد كشفت نقاط ضعفي، كل شائبةٍ، وكل جهد بذلته. لقد اختبرت شخصيتي، وإرادتي، وقدرتي على قيادة مشاعري البكر بطريقة جعلتها تعمل لصالحي لا ضدي. وبين خطوطها كان ضعفي محمياً. كم كنت محظوظةً لأجد الأرضية التي أشعر عليها أنني مكشوفةٌ للغاية، ومرتاحةٌ للغاية في الوقت عينه.
أحد مفاتيح نجاحي كان أنني لم أنظر يوماً خلفي، ولم أتطلع للأمام. كنت أعتقد أنني إن تابعت صقل موهبتي فسأدفع بنفسي إلى أماكن ومراتب مذهلة. لكن إتقان التنس لا نهاية له، عليك ببساطةٍ أن تستمر في الوفاء بمتطلبات الملعب فيما تحاول إسكات تلك الأفكار المستمرة في ذهنك: هل بذلت ما يكفي من جهدٍ، وأكثر، لتستعد لخصمك التالي؟
لقد أخذت بضعة أيامٍ إجازةً، جسدك يفقد كفاءته.
تلك الشريحة الزائدة من البيتزا التي أكلتها؟ ربما يجدر بي التعويض عنها بحصة تمارين صباحيةٍ.
إرهاف السمع لذلك الصوت، وتوقع كل تراجعٍ وتدفقٍ لأفكاره، هو طريقةٌ أخرى لتقبلي تلك الإشارات النهائية متى حضرت.
إحدى تلك الإشارات حضرتني في أغسطس/آب الماضي، في بطولة أمريكا المفتوحة. خلف الأبواب المغلقة، وقبل 30 دقيقةً من النزول إلى أرض الملعب، كنت أخضع لإجراءٍ طبي لتخدير كتفي لأتمكن من لعب المباراة. ليست إصابات الكتف أمراً جديداً عليّ، ومع الوقت فقد اهترأت أوتار كتفي كثوبٍ قديم بالٍ. خضعت لجراحاتٍ متعددةٍ، مرةً في عام 2008، وأخرى العام الماضي، وقضيت شهوراً لا تحصى في العلاج الطبيعي. كان مجرد النزول إلى الملعب بالنسبة لي ذلك اليوم هو الانتصار المطلق، في حين كان يجدر بطبيعة الحال أن يكون أول خطوةٍ في طريق الانتصار. لا أحكي ذلك لأحصل على الشفقة، لكن لأوضح الواقع الجديد: لقد بات جسدي هو العائق.
أثناء مسيرتي، لم يكن سؤال: “هل الأمر يستحق كل ذلك؟” يخطر على بالي، في النهاية كان الأمر دائماً يستحق. لطالما كان ثباتي الذهني سلاحي الأقوى. حتى لو كانت منافستي أقوى بدنياً، وأكثر ثقةً، وأفضل ببساطةٍ، كنت أستطيع أن أتفوق، وكنت أتفوق بالفعل.
لم أشعر يوماً بأنني مجبرةٌ على الحديث عن العمل، أو الجهد، أو الندم، كل رياضي يفهم التضحيات غير المحكيّ عنها التي يتوجب عليه تقديمها لينجح. لكن بينما أدخل الآن فصلاً جديداً في حياتي، فإنني أُريد لكل من يحلم بإتقان أي شيءٍ أن يعرف أن الشك وإطلاق الأحكام لا مفر منهما: ستفشل مئات المرات، وسيراك العالم. تقبل ذلك. ثق بنفسك. وأعدك بأنك ستنتصر.
حين وهبت حياتي للتنس، وهبني التنس حياةً. حياة سأفتقدها كل يومٍ. سأفتقد التمارين وروتيني اليومي: الاستيقاظ في الفجر، ربط حذائي الأيسر قبل الأيمن، وإغلاق أبواب الملعب قبل أن أضرب كرتي الأولى في اليوم. سأفتقد فريقي، ومدربيّ. سأفتقد اللحظات التي أجلس فيها مع أبي على كرسي ملعب التمرين. ارتعاشات اليد، في الفوز أو في الخسارة، والرياضيون الذين دفعوني لأكون أفضل، سواءُ عرفوا ذلك أم لم يعرفوا.
حين أنظر اليوم خلفي، ألاحظ أن التنس كان جبلي الذي يتوجب عليّ تسلقه. لقد كان طريقي مليئاً بالوديان والمنعطفات، لكن المشهد من على قمته كان مذهلاً. ولكنني بعد 28 عاماً و5 ألقاب غراند سلام، أصبحت مستعدةً لتسلق جبلٍ آخر، ولأنافس على أرضٍ أخرى.
لكن ماذا عن ذلك السعي الحثيث للانتصار؟ لن يخبو ذلك أبداً. بغض النظر عما ينتظرني، سأحافظ على التركيز نفسه، ومعايير العمل نفسها، وكل الدروس التي تعلمتها في طريقي.
وفي الوقت الراهن، هناك بعض الأشياء البسيطة التي أتطلع إليها: بعض الاستقرار مع عائلتي. الحفاظ على احتساء فنجان القهوة الصباحي. رحلات عطلات نهاية الأسبوع غير المتوقعة. والتمارين التي أختارها (مرحباً بدروس الرقص).
لقد أراني التنس العالم، وأراني معدني الحقيقي. لقد كان وسيلتي في اختبار نفسي وقياس نموي. لذا أياً ما كان ما سأختاره للفصل القادم، والجبل القادم، سأظل أدفع نفسي للأمام. سأتابع التسلق.