لبنان: بين تجربة 1987 وأزمة 2020 تشابُه في المشهد واختلاف في الجوهر

منذ تجربة الثمانينات الى محنة 2020 ولبنان عالق بين دوّامة الدولرة وسعر صرف الدولار/ الليرة و»التضخّم المستورد»… ولكن هذه المرة مع اختناق الاقتصاد بمديونية الدولة التي امتَصّت الدولار من المصارف، أي من ودائع الناس، وزادت على المشهد انفجار أزمة الدين العام ودولرته، أرخَت بثقلها على السياستين النقدية والمصرفية وعلقت معها الودائع المدولرة للناس حتى شحّ الدولار وارتفع سعره وأشعل كل الأسعار! ولكن أيّ ترابط بين دولرة الاقتصاد وسعر الصرف والتضخّم؟ وما خصوصية الوضع اليوم؟ وما جوهر اختلافه مع تجربة الثمانينات؟

 

في الواقع تظهر قراءة تطور معدل التضخم في لبنان فترة لافتة يخشى تكرارها كانت قد سادت عام 1987 حين تخطى ارتفاع الأسعار 487 %، لينخفض تدريجاً بعدها مع السياسة النقدية المتشددة عام 1992 وضبط سعر الصرف خاصة بعد عام 1997. وقد ترافق انهيار سعر صرف العملة الوطنية مع ارتفاع سعر الدولار من 2.25 ليرة لبنانية عام 1972 الى أكثر من 2850 ليرة عام 1992، قبل أن يتم خفضه تدريجاً بدءاً من نهاية عام 1992 وصولاً الى تثبيته على 1507.5 ليرات منذ عام 1997… وذلك مع ارتفاع معدل دولرة الاقتصاد من حوالى 25 % من الودائع عام 1972 الى أكثر من 86 % عام 1987 ليعاود انخفاضه التدريجي من دون ان ينزل تحت خط 67 %، ثم يعاود الارتفاع ليصبح اليوم 76 %.

في الثمانينات، وبعد صمود الاقتصاد بعد سنوات من الحرب التي بدأت عام 1975، كان لا بد أن يؤدي تراكم زيادة خلق العملة الوطنية لتلبية حاجات تمويل الدولة والسوق الى تضخّم متزايد، ثم في ظل حرية حركة الرساميل وسوق القطع اختار العملاء الاقتصاديون بحرية ومن دون قيود أن يلجأوا تدريجاً الى استخدام عملة دولية ثابتة تحفظ لهم قيمة مدّخراتهم وتسهّل لهم تسعير البضائع والتبادل التجاري من دون الحاجة الى التغيير اليومي للأسعار، فاختاروا الدولار… حتى ارتفعت دولرة الودائع بالتزامن مع الارتفاع الحاد للتضخّم بما تترجم زيادة في الطلب على الدولار وتَخلٍّ حر من القطاع الخاص عن الليرة اللبنانية في محاولة للحفاظ على القدرة الشرائية للمدّخرات.

ولكن، في أحيانٍ كثيرة، ومن خلال إفساح المجال للمضاربة على الليرة اللبنانية لتحقيق الأرباح التي قضَت على الطبقة الوسطى ذات المدخول الثابت بالليرة اللبنانية، ارتفع سعر الدولار المطلوب بشدة على حساب الليرة المتخلّى عنها… إلّا أنّ الدولرة بقيت «غير رسمية» أي ناتجة عن خيار حر من القطاع الخاص من دون توجيه أو اعتراف رسمي، وبقيت طبعاً الضرائب والرسوم ورواتب القطاع العام وقسم من القطاع الخاص بالليرة اللبنانية.

على الرغم من ارتفاع معدل الدولرة، إلّا أنّ الملفت أنه رغم الطابع «غير الرسمي» للدولرة رسَت في السوق اللبنانية ظاهرة اعتماد الدولار الورقي في التبادل التجاري واستمر التسعير به للمبيعات الكبرى (عقارات، سيارات…)، وأكثر من ذلك أوجَد المصرف المركزي غرفة مقاصّة للشيكات بالدولار الأميركي.

ومع تطوّر التقنيات المصرفية واعتماد الصرّاف الآلي، تمّت تعبئة أجهزة الصراف الآلي بالدولار الأميركي الى جانب الليرة اللبنانية، خلافاً لِما هو الحال في مختلف بلدان العالم حيث التداول الورقي لا يكون الّا بالعملة الوطنية التي يحق للمصرف المركزي طباعتها والتحكّم بكميّتها في السوق! (جدول رقم 1، رقم 2، رقم 3)

ومن المعروف أنه في ظل ارتفاع معدّل الدولرة لا تعود السياسة النقدية المتشددة القائمة على ضبط كمية ضَخ السيولة بالعملة الوطنية كافية لضبط التضخّم لكثافة التعامل بالعملة الأجنبية، مما يبرّر اللجوء الى تثبيت سعر الصرف والتدخّل في سوق القطع للمحافظة عليه. وأكثر من ذلك في لبنان حيث 80 % من الاستهلاك يعتمد على الاستيراد، يصبح تثبيت استقرار سعر الصرف حاجة ملحّة للحفاظ على القدرة الشرائية لذوي المداخيل الثابتة بالعملة الوطنية.

إلّا أنّ التدخّل المستمر في سوق القطع لا يعني أنّ العملة الوطنية اكتسبت استقراراً وثباتاً حتى لو بعد 23 سنة (منذ العام 1997)، بل انها بقيت رهن التثبيت بالتدخّل من المصرف المركزي واستنزاف احتياطه بالعملة الأجنبية. كما أنّ كمية الدولار التي يحتاجها السوق لا يمكن أن تعتمد فقط على اجتذاب ودائع اللبنانيين بفوائد مرتفعة تكلّفهم لاحقاً خدمة دين وعجز عن التسديد كما حصل، بل تحتاج الى سياسة اقتصادية تنطلق من مميزات الاقتصاد اللبناني ودوره الفريد الذي يمكن أن يستقطب استثمارات ويحقّق نمواً، ويخلق فرَص عمل ويعتمد الابتكار في مجالات ذات قيمة مضافة مرتفعة وقليلة الحاجة للمواد الأولية المستوردة كي لا يبقى الدولار عائقاً حتى للانتاج المحلي. فالاعتماد الفائض على الاستيراد حتى للمواد الانتاجية يحرم الاقتصاد حتى من فوائد تدهور سعر الصرف لجهة زيادة التنافسية، لأنه يزيد كلفة إنتاجها ولا يسمح بتخفيض أسعارها.

أمّا خصوصية الأزمة اليوم فتختلف عن الثمانينات أيضاً، كون دولرة الودائع لم تعد تحمي أصحابها بعد أن عمدت الدولة الى الاستدانة ودولرة دينها بدورها، وموّلته بشكل أساسي من الجهاز المصرفي الذي استخدم لذلك توظيف ودائع الناس، فعلق حوالى ثلثا ودائع الدولار، أي 85 مليار دولار من أصل 120 مليار دولار، بين 15 مليار دولار في شراء المصارف لليوروبوندز و70 مليار دولار لدى المصرف المركزي بين احتياطي إلزامي وودائع مقابل شهادات إيداع بالدولار… فيما استحوذ المصرف المركزي على يوروبوندز بـ 5.7 مليارات دولار وذهب بحوالى 14 مليار دولار، ولم يبق لديه أكثر من 30 مليار دولار كإحتياطي.

صحيح أنّ المشهد اليوم يذكّرنا بالعام 1987، ولكن الجوهر يختلف. عام 1987 كان الدولار متوفّراً والطلب عليه يزيد بفِعل التضخّم وسعره الرسمي يرتفع، اليوم الدولار مفقود وسعره الرسمي ثابت والسوق الموازي يشعل التضخّم… لا يمكن تصوّر الخروج من الأزمة بما جرى عام 1992 باعتماد القرار بتثبيت سعر الصرف، كون الدولارات الضرورية لذلك هذه المرة محجوزة لدى القطاع العام غير القادر حالياً على ردّها لأصحابها! وبالتالي، المسألة تحتاج الى الإصلاحات البنيوية التي تعزّز الاقتصاد الوطني وتؤسّس لثبات عملته الفعلي والمُستدام.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى