هل أصبح لبنان دولة فاشلة؟* هشام ملحم

النشرة الدولية –

لم يحدث في تاريخ الجمهورية اللبنانية أن تخلفت حكومة عن تسديد قروضها الخارجية المستحقة. قرار رئيس الوزراء حسان دياب تعليق استحقاق 9 مارس من اليوروبوند بقيمة 1.2 دولار لوقف استنزاف احتياط لبنان المتواضع من العملات الصعبة هو اعتراف رسمي بأن الدولة، كما عهدناها منذ 1990، قد أفلست وأفلس معها الائتلاف السياسي ـ المالي الذي هيمن ولا يزال يهيمن على لبنان منذ ذلك الوقت.

لبنان الآن عالق في وسط نفق مظلم وغير قادر على الزحف إلى الأمام أو إلى الوراء. الإفلاس في جوهره هو إفلاس طبقة سياسية ـ مالية مفترسة تتبجح بفسادها، ولكنه أيضا إفلاس اجتماعي وثقافي تمثل في نمط حياة غير طبيعي مبني على نكران الواقع والتعلق بالتمنيات ونبذ النقد الذاتي ومحاسبة الأخطاء والخطايا والميل لعدم تحمل المسؤولية، وتحميل “الآخر” إن كان في الداخل أو في المحيط أو في العالم البعيد مسؤولية أزمات اللبنانيين، ودائما التعلق بالمنقذ الآتي من الخارج لتصحيح الوضع مؤقتا، ووقف الانهيار الراهن، وحماية مكتسباتهم، ولكن ليس لحل معضلاتهم الحقيقية. لبنان في طريقه إلى خانة الدول الفاشلة.

التظاهرات الاحتجاجية التي اندلعت في لبنان منذ أكتوبر الماضي ضد الفساد والهدر وسوء الإدارة كشفت للكثير من اللبنانيين، إن المسؤولين عن انهيار التركيبة اللبنانية الهشة التي انبثقت عن اتفاق الطائف ليسوا فقط أمراء الطوائف ورؤساء ما يسمى بالأحزاب السياسية والميليشيات والتنظيمات الطائفية وحلفائهم في الإكليروس الديني على مختلف طوائفه، بل ايضا ما يمكن وصفه بموضوعية، مافيا المصارف التي دخلت في تحالف غير مقدس وسري مع الدولة لخلق أسطورة الليرة اللبنانية القوية المدعومة بالذهب واحتياط العملات الصعبة، والمصرف المركزي الذي يديره الحاكم “الشاطر” رياض سلامة منذ 1993 (إذا أكمل ولايته الحالية التي تنتهي في 2023 فإنه سيكون قد حكم القطاع المالي في لبنان لثلاثين سنة). وحده رئيس مجلس النواب نبيه بّري الذي يهيمن على البرلمان منذ 1992 دون توقف يتساوى مع رياض سلامة في التحكم بمنصب رفيع في الدولة اللبنانية الهشة.

تضمن خطاب رئيس الوزراء دياب تشخيصا سليما لبعض أوجه الازمة، مثل الإشارة إلى أن الاقتصاد اللبناني أصبح قائما على “فلسفة الاستدانة” وأن اللبنانيين عاشوا “أملا كان وهما، وكأن الأمور على خير ما يرام، بينما كان لبنان يغرق بمزيد من الديون وفوائدها، بما في ذلك بالعملة الصعبة، حتى تخطى مجموع الدين العام 90 مليار دولار، بما يشكل نحو 170 في المئة من الناتج المحلي”.

ولكن الخطاب تضمن “شطحات” إنشائية وبلاغة مصطنعة وسفسطة مقصودة ومصممة للتعمية ولنشر الأساطير الممجوجة حول الشخصية اللبنانية الاستثنائية، والادعاءات بفرادة لبنان. “بلدنا رائع واستثنائي. شعبنا فريد من نوعه. وأنا مؤمن حقا بمواهبنا الجماعية وغير العادية”. نعم الاستثنائية اللبنانية هي التي جعلته من بين الدول الأكثر مديونية في العالم، لبنان البلد الرائع الذي يطوف فوق بحر من الزبالة، ويعيش مواطنوه في بيئة قاتلة تسود فيها جميع أنواع السرطانات الناتجة عن التلوث، هو بالفعل بلد لا مثيل له.

خطاب الرئيس دياب يعكس من جملة ما يعكسه تجذر الشخصية “الفهلوية” في الثقافة الشعبية اللبنانية وأبرزها ادعاء العلم والمعرفة والتذاكي والشطارة والتظاهر بأشياء لا تعكس الحقائق. دياب أوحى بأن لديه تصورا لإخراج لبنان من محنته التاريخية، ولكن خطابه لم يتضمن أي شيء من هذا القبيل، بل بوعود بأنه سيدخل في مفاوضات مع المؤسسات المالية الدولية لإعادة برمجة قروض لبنان، ومساعدته تقنيا وماليا لتفادي انهيار أوسع في المستقبل القريب.

هناك حديث عن إصلاح قطاع الكهرباء، وحديث عن إصلاح النظام الضرائبي، وإقامة “شبكة أمان اجتماعي لحماية الطبقات الأكثر فقرا”. وحين الحديث عن مكافحة الفساد استخدم دياب عبارات ثقيلة العيار لإظهار جديته “لقد باشرنا بإعداد استراتيجية وطنية لمكافحة الفساد”.

تضمنت وعود دياب “إعداد خطة لإعادة هيكلة القطاع المصرفي”، الذي اعترف، على الأقل، أن حجمه “يفوق بأربعة أضعاف حجم اقتصادنا”. وأنهى دياب خطابه بشعار “بالانقسام الفشل وبالوحدة النجاح”.

اللبنانيون، وكذلك المؤسسات والمنظمات المالية الدولية، وتحديدا صندوق النقد الدولي، سمعوا بعض أو معظم هذه الوعود من رؤساء الوزارات الذين سبقوا دياب وشاركوا في المؤتمرات الدولية لأصدقاء لبنان، ومؤتمرات باريس سيدر وغيرها، والتي لم تؤد إلى أي تغيير نوعي في نمط عمل الدولة اللبنانية ومؤسساتها الفاشلة، أو الممارسات المصرفية التي ساهمت في إيصال لبنان إلى مأزقه المالي الراهن الذي ألحق ضررا كبيرا بما تبقى من صدقيته كدولة تفي دائما بقروضها المسحقة.

 

انتقاد تضخم القطاع المصرفي وزيادة تحكمه بمصير اللبنانيين، يجب أن يصاحبه انتقاد أولئك المودعين اللبنانيين الذي كانوا يتلقون معدلات فائدة عالية على أموالهم من المصارف اللبنانية وهي معدلات غير مألوفة في الدول الأخرى. اللبنانيون لم يتساءلوا كيف يمكن لهذا الوضع أن يستمر في المستقبل. وهذا كان نكرانا جماعيا للكارثة الآتية. المصارف اللبنانية كانت تستخدم أموال اللبنانيين لإقراضها للدولة بفوائد عالية وللسياسيين اللبنانيين بمعدلات فائدة متدنية، ما يعني أن المصارف كانت تقامر بأموال اللبنانيين، وتحديدا صغار المودعين دون علمهم.

ولذلك قبل الحديث عن الدواء الموجع الذي سيصفه صندوق النقد الدولي ـ إذا افترضنا أن حكومة حسان دياب ستدخل في مفاوضات جدية معه ـ للبنانيين، يجب أولا أن يتعرف اللبنانيون، للمرة الأولى في تاريخهم الحديث على كيفية عمل المصرف المركزي، بما في ذلك حجم احتياط لبنان من العملات الصعبة، وربما الأهم من ذلك علاقة المصرف المركزي بالمصارف الأخرى وكيفية إقراض الدولة والسياسيين ورجال الأعمال اللبنانيين.

أي شيء أقل من مثول رياض سلامة وغيره من كبار المصرفيين أمام لجان البرلمان لكشف حجم وأبعاد الأزمة المالية وتسمية المسؤولين عن إيصال لبنان إلى هذا الطريق المسدود، يجب أن يرفض. وليس من المبالغة القول إن معظم أعضاء البرلمان اللبناني لا يعرفون قيمة احتياط لبنان من العملات الصعبة، أو طبيعة علاقة المصارف بالدولة.

قبل الحديث عن إعادة جدولة قروض لبنان وقبل مناقشة شروط صندوق النقد الدولي لمساعدة لبنان للخروج من محنته المالية، هل يستطيع دياب ضمان موافقة “حزب الله” وحلفائه على اللجوء إلى صندوق النقد الدولي؟ أم أن الحزب بشخص قائده، الأمين العام حسن نصرالله، ذو الاطلاع الواسع على الفقه الاقتصادي سيعود لإلقاء المحاضرات الاقتصادية والمالية على اللبنانيين ويحضهم على رفض الخضوع لشروط الصندوق والاعتماد في المقابل على إقامة علاقات اقتصادية أقوى مع إيران والعراق والصين؟

شروط صندوق النقد الدولي سوف تكون موجعة للبنانيين، لأنها ستتضمن ربما رفع معدلات الضرائب، وخفض المساعدات الاقتصادية، وتخفيف حجم البيروقراطية الرسمية. وهذا يعني أن الحكومة مطالبة بالتخلص من الترهل الكبير في أجهزتها المختلفة، وتسريح عدد كبير من الموظفين غير الضروريين، والذين تم توظيفهم بسبب ضغوط ومطالب السياسيين اللبنانيين الذي يريدون استغلال موارد الدولة لتوظيف أنصارهم.

هل يجرؤ دياب على الدعوة إلى نقاش صريح ومفتوح لميزانية القوات المسلحة بهدف تخفيضها؟ معظم ميزانية الجيش تنفق على رواتب الضباط الكبار وتقاعدهم ومكافآت إنهاء خدمتهم (والخدمات المجانية الأخرى التي يتلقوها) وليس على الأسلحة التي تصل الجيش كهبات. هل يجرؤ هو وغيره من السياسيين على طرح مسألة إعادة هيكلة القوات المسلحة وتخفيض عديد أفرادها وعديد ضباطها، ودون الإضرار بفعاليتها وقدراتها القتالية؟

وقبل مناقشة سبل التصدي للفساد مع صندوق النقد الدولي، هل يمكن لرئيس الوزراء الجديد، الذي يفترض أن يكون من خارج الطبقة السياسية المحترفة والمترهلة، أن يحاول استصدار قوانين من البرلمان لمكافحة الفساد أبرزها قانون يطالب الرؤساء الثلاثة وأعضاء البرلمان ورؤساء ومدراء الأجهزة الحكومية المختلفة بتقديم بيانات مالية وضرائبية حول ثرواتهم ومصادر دخلهم كشرط مسبق لانتخابهم أو توظيفهم؟

يواجه لبنان للمرة الأولى في تاريخه الحديث أزمة اقتصادية خانقة يمكن أن تؤدي إلى استقطابات سياسية وتوترات أمنية خطيرة تهدد مستقبله كدولة قادرة على الحياة.

ما يمكن أن نتوقعه بدرجة متقدمة من الثقة هو أن الطبقة السياسية ـ المالية الحاكمة ستقاوم أي طروحات إصلاحية جذرية إن كان مصدرها لبنانيا أم خارجيا. وصل لبنان إلى مأزقه الراهن بعد عقود من الممارسات السياسية والاقتصادية غير الصحية، ولن يخرج من محنته الراهنة إلا بعد سنوات من التقشف وشد الحزام والتضحيات الاقتصادية، إذا افترضنا أن إصلاحات حقيقية سوف تنفذ.

خطاب دياب، لم يتطرق إلى التحدي المصيري الذي يواجه الدولة اللبنانية ومستقبلها كدولة ذات سيادة وقادرة على الحياة وحتى على الازدهار، أي وجود دولة “حزب الله” الذي يدين بالولاء لدولة أجنبية اسمها إيران، داخل الدولة اللبنانية.

إصلاح الدولة اللبنانية ومؤسساتها هو هدف صعب التحقيق لأن لبنان محاط بدول ومجتمعات تعيش في اضطرابات سياسية وأمنية لن تنتهي في أي وقت قريب. إصلاح الدولة اللبنانية بطريقة جدية مستحيل بوجود “حزب الله” بسلاحه ودوره التخريبي في خدمة استراتيجية إيران العدائية، كما يتبين من دوره كأداة عسكرية في يد إيران حين استخدم العنف ضد الشعب السوري لضمان بقاء نظام الأسد الدموي في السلطة.

عندما انتهت الحرب، تفادى اللبنانيون مواجهة أثارها عليهم ولذلك لم يتعلموا الكثير من دروسها. عندما انهار النظام العنصري في جنوب أفريقيا، جرت مصارحة مؤلمة ومحاسبة أخلاقية وقانونية للمسؤولين عن النظام العنصري والمستفيدين منه ووضع ضحاياه، كمقدمة لأي وفاق حقيقي وتعايش جديد بين الطرفين.

هذا لم يحدث في لبنان بعد الحرب، ولكن ربما يحتاج اللبنانيون اليوم، أكثر من أي وقت مضى لمثل هذا النقاش والمصارحة، التي يجب أن تشمل مسؤولية اللبنانيين أنفسهم كمواطنين، وليس كطوائف وقبائل متناحرة، عن المرحلة التي وصلوا إليها.

الإخفاق الذي أوصل لبنان إلى هذا النفق المظلم، ليس فقط إخفاق للدولة ومؤسساتها، بل إخفاق للبنانيين الذين يفترض بهم الآن أن يتصرفوا كمواطنين وليس كجماعات وطوائف، وأن يطرحوا على أنفسهم بعض الأسئلة الصعبة وأن يحاولوا الإجابة عليها بصراحة.

اللبنانيون لوحدهم هذه المرة. المنقذ لن يأتي من سوريا أو إيران، ولن يأتي من السعودية أو فرنسا، أو حتى من أميركا. الإنقاذ سيأتي من لبنان، أو لن يأت.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى