النّاي بين قصيدتي جبران خليل جبران وجلال الرّومي* مادونا عسكر

النشرة الدولية –

الأدب سياق واحد يتكامل تدريجيّاً ويتطوّر شكلاً ومضموناً كلّما اقترب الأديب من ملامسة الآفاق الإنسانيّة ببصيرته وعمقه الإنسانيّ. وكلّما نشّط النّزعة إلى العلاء والتّحلق في الأثير نظر إلى العالم من فوق نظرة النّضوج الرّوحيّ المتمعّن في تفاصيل منهكة، ونظرة المتأمّل في الوجع الأساسيّ للإنسانيّة. وما يلبث وهو في غمرة التّأمّل أن ينحت سبيلاً جديداً أو يبشّر بعالم جديد يطمح إليه خالياً من الأوجاع. ولئن كان الأدب سياقاً واحداً، فلا بدّ من أنّه امتداد واستمراريّة. وكأنّي به دائرة يدور فيها ذوو النّفوس الرّفيعة الّتي بلغت ما بلغته من وعي روحيّ وحِكْميّ.وفي هذه الحال تتجلّى النّزعة الصّوفيّة عند أؤلئك الأدباء الّذين ما برحوا يتألّمون من الوعي والنضج، لأنّهم لامسوا الحقيقة، وتلمّسوا النّور. فبات من العسير عليهم أن يقبلوا الظّلمة.

ولعلّنا ندرك هذا الامتداد في قصيدتين من زمنين مختلفين ومن ثقافتين مختلفتين، إلّا أنّهما تدوران في فلكالدّائرة الإنسانيّة ذات الأصل الإلهيّ. فبين قصيدة “أنين النّاي” لجلال الدّين الرّومي، وقصيدة “المواكب” لجبران خليل جبران نقطة التقاء إنسانيّ وجوديّ تتجلّى من خلاله الوحدة الإنسانيّة في عمقها.

جلال الدّين الرّومي الّذي عاش بين سنة 1207 و1273، وجبران خليل جبران الّذي عاش بين سنة 1883 و1931، يمتزجان روحيّاً على الرّغم من المسافة الزّمنيّة بينهما. وذلك لأنّ الرّوح الإنسانيّة متفلّتة من الأزمنة والأمكنة ومرتبطة بالجوهر الإنسانيّ.

لسنا نعلم إن كان جبران خليل جبران قد اطّلع على نصوص جلال الدّين الرّومي، لكنّنا نتلمّس ما يشبه التآلف بين القصيدتين. ولعلّه يمكنني القول إنّ النّصّ الجبرانيّ انطلق بشكل أو بآخر من نهاية قصيدة جلال الدّين الرّومي حيث يقول متحدّثاً عن النّاي:

“إنّه يقصّ علينا حكايات الطّريق الّتي خضبتها الدّماء

ويروي لنا أحاديث عشق المجنون

الحكمة الّتي يرويها، محرّمة على الّذين لا يعقلون،

إذ لا يشتري عذب الحديث غير الأذن الواعية” (جلال الدّين الرّومي)

هدف القصيدتين إنسانيّ، فهدف جلال الدّين الرّومي هو الإنسان، وكذلك جبران خليل جبران. فالفكر الجبرانيّ بشكل عام يدور حول النّفس الإنسانيّة وصراعاتها وتناقضاتها. لكنّه في “المواكب” يتحرّك بشكل دائريّ في الوجود الإنسانيّ، مبشّراً بواقع مثاليّ أرقى من الواقع المذل الّذي يعيشه الإنسان. وجبران المؤمن بفطرة الإنسان الإلهيّة الّتي ليست سوى بضعة من الذّات الإلهيّة، وبهدف الوجود الإنسانيّ الّذي هو تجسيد رسالة الألوهة. يتماهى مع جلال الدّين الرّومي الّذي يؤمن هو الآخر بأصول الإنسان الإلهيّة، فيتحدّث في “المثنويّ” عن الإنسان وأصله الإلهيّ.

يبشّر جبران بالغاب الفاضل، إن جاز التّعبير، ذاك الّذي قُطع منهالناي بحسب جلال الدّين الرّوميّ فيقول:

مذ قطعت من الغاب، والرّجال والنّساء لأنيني يبكون

ويقول جبران:

كيف يرجو الغاب جزءا        وعلى الكلّ حصل؟

وبما السّعي بغاب                أملا وهو الأمل؟

الغاب موضوع الرّجاء في القصيدتين، فمنه وإليه يعود الإنسان. جبران الرّامي إلى الغاب الّذي هو شيء يرام إليه، يحاكي غاب جلال الدّين الرّومي المدرك لأصله الّذي يحنّ إليه ويرجوه إلى أن يعود إليه. وفي هذه المحاكاة تواصل ضمنيّ يعبّر من خلاله جلال الدّين الرّومي عن شوقه إلى الغاب الأصل، ويعبّر فيه جبران عن شوقه إلى الغاب الأصل والهدف النّهائي للإنسان، حيث الحرّيّة الإنسانيّة الكاملة، والواقع المعدّ للإنسان منذ البدء.

ليس في الغابات راعٍ            لا ولا فيها القطيع

ليس في الغابات حزن          لا ولا فيها الهموم

ليس في الغابات دين            لا ولا الكفر القبيح

ليس في الغابات عدل           لا ولا فيها العقاب

لهذه الأبيات دلالة عميقة تبيّن جوهر الغاب المرجو، وانفصاله عن الزّمان والمكان. كما يبيّن الحالة التّجريديّة الإنسانيّة متى بلغت الأصل. ويظهر من خلالها حزن جبران الواعي والعميق. إذ إنّه من عمق الحزن الإنسانيّ يبشّر بالغاب الحرّ. ومن عمق الحزن يتماهى جلال الدّين الرّومي مع البشريّة يبشّرها بالحبّ. إلّا أنّ جلال الدّين الرّومي يريد غرس الغاب في عمق الإنسانيّة، غير أنّ جبران يبشّر به كواقع منفصل تبلغه الإنسانيّة:

وهكذا غدوت مطرباً في المحافل

أشدو للسّعداء، وأنوح للبائسين

وكلٌ يظنّ أنّني له رفيق

ولكنّ أياً منهم (السّعداء والبائسين) لم يدرك حقيقة ما أنا فيه!!

امتزج جلال الدّين الرّومي بالإنسان، فروحه متّحدة بكلّ إنسان، إذ بلغ ما بلغه من عمق المحبّة الّتي تجعل البشريّة كلّها واحدة. لكنّ الإنسان غير واعٍ إلى الحال الّتي عليها جلال الدين الرّومي، أي ألم الاشتياق إلى الأصل الإلهيّ. ما يعني أنّ الإنسانيّة تتخبّط بواقعها غافلة عن أصلها الإلهيّ وسعادتها آنية مؤقّتة، وحزنها بؤس وأسى. وهو غير حزن الشّاعرين. ولو أدرك الإنسان سرّ أصله لنال السّعادة. ما يعبّر عنه جبران قائلاً:

وما السّعادة في الدّنيا سوى شبح                 يرجى فإن صار جسماً ملّه البشر

السّعادة كامنة في السّعي إليها، وفي الشّوق الإلهيّ، وفي الغاب الفاضل الحرّ حيث الحبّ والخلود. إنّها نعيم الرّوح التّائقة إلى محبوبها عند جلال الدّين الرّومي والتّائقة إلى الحرّيّة في عالم الغاب عند جبران خليل جبران. الرّوح المتّحدة بالجسد في لحظة حرّيّة كاملة ليتجلّى الشّخص، الكيان. وغاية الوجود هو سرّ الرّوح غير الفانية لأنّها من الرّوح الكلّيّ الخالد، فيقول جبران:

لم أجد في الغاب فرقاً                    بين نفس وجسد

وغاية الرّوح طيّ الرّوح قد خفيت    فلا المظاهر تبديها ولا الصور

ويقول جلال الدّين الرّومي:

فالجسم مشتبك بالرّوح، والرّوح متغلغلة في الجسم

ولكن أنّى لإنسان أن يبصر تلك الرّوح؟

وفي لحظة انسجام كونيّ ينصت جبران إلى أنين ناي جلال الدّين الرّومي يحكي تلك الرّحلة إلى السّعادة، إلى الأصل الإلهيّ. فيترجم المعنى الّذي همس به النّاي في قصيدة جلال الدّين الرّومي.

في أنين النّاي عند جلال الدّين الرّومي حنين وشوق ولهفة، وأمّا عند جبران فأنين النّاي مرادف للعمل الإبداعيّ المستمدّ من الإبداع الأعلى والشّوق الدّائم إليه. وبذلك يعبّر جبران عن جوهر التّكوين الحضاريّ المرتبط بشكل وثيق بالفن والإبداع. وخلاص الإنسان من واقعه البائس مرتبط بالفنّ والجمال:

أعطني النّاي وغنّ               فالغنا نار ونور

وأنين النّاي شوق                لا يدانيه الفتور

والإصغاء إلى النّاي إصغاء إلى الجمال الّذي لا يفنى، وسعي إليه بألم الشّوق ونار العشق. لذلك عبّر جلال الدّين الرّومي قائلاً:

وهكذا كان النّاي صديق من بان

وهكذا مزّقت ألحانه الحجب عن أعيننا

فمن رأى مثل النّاي سمّاً وترياقاً؟

ومن رأى مثل النّاي خليلاً مشتاقاً؟

فهذه الأداة الموسيقيّة الّتي تصدر اللّحن إذا ما نُفخ فيها الهواء تعبّر عن الحنين والاشتياق، وتؤسّس لحضارة الإنسان وخلاصه. النّاي نار يكشف الحجب عند جلال الدّين الرّومي، ونار ونور عند جبران خليل جبران يكشف للإنسان السّبيل إلى الجمال الأعلى. لكنّ لحن النّاي يحتاج إلى عقول مستنيرة  وأرواح واعية لقيمتها لتدرك وتفهم وتبلغ أصلها الإلهيّ.

أعطني النّاي وغنّ               فالغنا سرّ الخلود

وأنين النّاي يبقى        بعد أن يفنى الوجود

يغلقجبران الدّائرة في “المواكب”، ويعود إلى الواقع ولعلّه رأى فيه حلماً بعيداً

لكن هو الدّهر في نفسي له أرب       فكلّما رمت غاباً قام يعتذر

وللتّقادير سبل لا تغيّرها                 والنّاس في عجزهم عن قصدهم قصروا

ويقفل جلال الدّين الرّومي الدّائرة على يقين أنّ الواقع يحتاج إلى الوعي العقليّ والرّوحيّ ليتحوّل ويبلغ الحكمة:

الحكمة الّتي يرويها، محرّمة على الّذين لا يعقلون،

إذ لا يشتري عذب الحديث غير الأذن الواعية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button