الحياة مزحة.. والموت أيضاً* لمياء المقدم

النشرة الدولية –

لا أعرف ما الذي يمكن الكتابة عنه في زمن الوباء، أو ما قيمة الكتابة في زمن يموت فيه البشر بسبب فايروس شارد من شوربة خفافيش. في لحظة تسقط كل قناعاتك بأهمية الكتابة وقدرتها على تغيير أي شيء، مهما كان. جمل طويلة، وكتب علم وفن وفلسفة متكدسة جميعها منذ خلقت البشرية لا تصل الآن إلى قيمة مصل يكتشف لينقذ العالم من غرقه.

الكل يبحث عما يطمئنه، وعن أمل ولو صغير جدا. هل يمكن للكتابة أن تقوم بهذا الدور؟ لأول مرة أقف مدهوشة أمام عجز الكتابة التي طالما آمنا بها ورفعنا تحدياتها ورددنا بلا هوادة خلفها “في البدء كانت الكلمة”. ما الذي تستطيع الكلمة الآن أن تفعله لامرأة تختنق وحيدة في مستشفى دون أن يمسك بيدها أحد؟ لمسن يودع قبره دون أن يقف على رأسه أحبته وأبناؤه يودعونه الوداع الأخير؟ لأم تجلس في البيت بينما ابنها يحتضر وحيدا في مكان مغلق ومعزول؟ ما قيمة الكلمة لمن لا يجد في هذه اللحظة الخارقة كمامة يضعها على فمه، أو حبة بندول يخفف بها ألمه، أو غذاء لأولاده على رفوف المحلات الفارغة؟

 

حتى في أقسى كوابيسنا لم يخطر لنا أن شيئا كهذا يمكن أن يحدث: في لحظة يتحول العالم بأسره إلى قطيع محاصر بالوحوش من كل الجهات: وحش الفايروس، ووحش الرأسمالية، ووحش الجهل، ووحش الموت وحيدا.

 

ربما نتساءل ما الذي أوصلنا إلى هنا؟ هل استحقت البشرية هذا الموت السوريالي؟ شخصيا لا أؤمن بالصدفة، وفي اعتقادي أن لكل نتيجة سببا مقنعا، ووصول البشرية إلى هذا الموت التراجيدي كما لو أنه من خلق مسرحي عابث، كان حتميا. شيء ما في هذه الطبيعة يخيفنا عن قصد ليسخر من ضعفنا، وهلعنا، وارتباكنا، وعجزنا أمام فايروس صغير يحلق على مقربة من أنوفنا.

 

وسننجو في النهاية، سيتوقف الأمر عند محاصرتنا كالفئران المفزوعة وإخافتنا وإثارة هلعنا، ومن ثم تركنا نواصل مسيرتنا منهكين، وساعتها سنحتاج فعلا إلى الكثير من الكلمات والدموع لنبكي ونتذكر الذين سقطوا.

 

للكلمات دور آخر الآن، هو أن نشعر الذين نحبهم بحجم حبنا لهم. لا تستطيع الكلمات أن تصنع مصلا ينقذ الذين ينتظرهم مصير قاتم، لكنها تستطيع أن تمنحهم الزاد الذي يحتاجون إلى تخزينه في صدورهم قبل أن يحتلها الفايروس. كلما زاد مخزون الحب في الداخل ضاقت المساحة على الفايروس. وقد يأكل الفايروس المتوحش المخزون كاملا، ولكنه قدر ألطف على أي حال، ففايروس متخم بالحب لا يمكن إلا أن يكون رحيما.

 

الكورونا ليست واحدة. تماما مثلما الموت ليس واحدا، ولا بد أن هناك نوعا منها يشعر بالألم وهو يقتلنا لأنه جرب الحب، ونوعا آخر شرسا يذهب للمقربين منا ليقتلنا مرتين.

 

الموت الخفاش هو أسوأ أنواع الموت وأكثرها قتامة على الإطلاق. ذلك الموت الذي يظل يصطدم بالجدار ليصحو، ثم يموت مجددا.

 

ماتت أمي منذ أعوام طويلة، ولكنني أصحو في الليل مفزوعة خوفا عليها من فايروس كورونا الذي يستهدف مرضى القلب والسكري. وعندما أصحو وأتذكر أنها ماتت، وأن الفايروس لا يقتل الأموات أتنفس بعمق لأبعد الخوف والاكتئاب. وعجبي، كيف أنه حتى من بين الأموات توجد فئات هشة أكثر من غيرها، نقلق لهشاشتها ونفزع لإمكانية تعرضها للخطر. ربما يموت البشر ولكن موتهم لا يلغي عنهم صفة الهشاشة، وأنا الآن مثلي مثل الخائفين على آبائهم الأحياء، أخاف على أمي الميتة من هشاشتها.

 

الهشاشة ليست في مرض القلب اًو السكري فقط، هناك هشاشة القلب، وهشاشة الحب، وهشاشة الفراق، وهشاشة التذكر وهشاشة الوحدة.. وجميعها تعرضنا بشكل قاس لمصير قاس… الحياة مزحة، والموت أيضا. لا شيء حقيقي، لا شيء يبقى ولا شيء يذهب فلنضحك جميعا على هذا المشهد العبقري.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى