“تيريز” ممرضة مستشفى الحريري تعيدني إلى صوابي* نوال الأشقر
النشرة الدولية –
وحيدة في تلك الليلة عشية عيد الأم أقبع بين جدرانٍ أربعة، بعيدة عن عائلتي وأهلي، أحجر نفسي في بيروت بينما عائلتي في منزلنا الجبلي، ليس لأنّ عوارض ذاك الوباء الكوروني قد أصابتي والحمد لله، ولا حبًّا بوحدة قاتلة في إجازتي الأسبوعية، بل خوفًا من أن أكون مصابة بذاك الوباء اللعين ولم تظهر العوارض بعد، فألتقي عائلتي وأنقل لهم الفيروس من حيث لا أدري، بينما هم ملتزمون بالبقاء في المنزل بالكامل.
بحكم عملي الصحافي لا أتقيّد بالحجر المنزلي، ولكنّي ألتزم إرشادات الوقاية بنسبة كبيرة، ورغم ذلك تنتابني حالة من الهلع، وعقدة ذنب تلازم يومياتي، فمجرد التفكير بأنّني سأتسبّب بنقل الوباء إلى بيتي، كفيل بزعزعة كياني. في تلك الليلة وبينما عقلي يحاول جاهدًا الحفاظ على تلك الشعرة بيني وبين الجنون، أشاهد وجه تيريز غبار على شاشة التلفاز في نشرة الأخبار، صديقتي من أيام الجامعة حيث كنّا نتشارك بيت الطالبات نفسه، نعم إنّها هي، عرفتها من عينيها الخضراوين الجميلتين، وهي تقود زميلتي ريمي درباس إلى حيث قسم العزل الخاص بمرضى كورونا في مستشفى رفيق الحريري الجامعي، وتشرح كيفية تجهيز أنفسهم كممرضات وممرضين للإعتنناء بمرضى كورونا في تلك اللحظات العصيبة. إذن صديقتي على تماس مع مرضى الكورونا، مهمتها الإشراف على تجهيز الفريق التمريضي لنفسه بالملابس والمعدّات اللازمة، والتأكد من تعقيم كلّ ركن في قسم العزل. تواصل عملها في زمن كورونا كما تملي عليها مهنتها الإنسانية، وتعرّض نفسها للخطر بما لا يقاس بي إطلاقًا.
شريط الذكريات يمرّ أمام مخيلتي، تيريز من بلدة إبل السقي الجنوبية اختارت مهنة التمريض، أذكر ذلك جيدًا، إلتقيتها آخر مرّة قبل ثلاثة عشرعامًا بينما كانت أمي على فراش المرض هناك في المستشفى نفسه، وقَفَت إلى جانبي كما تفعل اليوم، يا للمفارقة أراها مجدّدًا ليلة عيد الأم، في مناسبة تفرحني وتحزنني في آن.
رحت أبحث عن رقم هاتفها، عسى أنّ الرقم الذي ما زال مدوّنًا في هاتفي يعود لها. عبر الواتس آب أسأل: “الرقم لتيريز غبار” فتجيبني بنعم. تمالكت نفسي كي لا تشعر بدموعي ودعوت لها بأن يحميها الله، لاسيّما وأّنها في الصف الأمامي في مواجهة كورونا، سألتها عن حالها النفسية وعن الخطر الذي يحيط بها، فإذا بها تتحدث عن الواجب والإيمان معًا وتتجرّد من الأنا “نحنا بمستشفى الحريري عم نقوم بواجبنا، وانشالله يا رب ما يصيب المرضى أي مكروه، بيلوا القلب هني خايفين كثير ونحنا عم نحاول نخفف عنن، هيدا التحدي مقوينا وأنا إيماني كبير، وانشالله الله بيرد عن عيلتي وولادي”. تتابع تيريز ” مررنا بحالات أصعب، ونحن بإمكانات متواضعة جدّا نقوم بالكثير، وأتحدى أي مستشفى آخر أن ينجز ما ننجزه حتّى بإمكانات مادية أكبر، إيماننا كبير وانشالله تمرق هل المهنة على خير”.
راحت تيريز التي تواجه هناك معركة كونية، راحت تخفّف عني وقد شعرت بخوفي، بدل أن أقوم أنا بهذا الدور”نوال حبيبتي ما تخافي، عيشي حياتك عادي، المهم استعملي الكمامة وغسل اليدين والتعقيم بشكل متواصل، وحافظي على مسافة المترين مع الأشخاص، ما تستعملي الكفوف لأنن بيحتفظوا بالفيروس فترة طويلة. اتركي الحذاء خارج المنزل عقمي يديك واستحمي فور دخولك المنزل، واغسلي ملابسك، ثم تابعي يومك مع عائلتك بشكل عادي. أياكِ والخوف، لأنّه عندها يضعف جهاز المناعة ويصبح جسمك معرضا أكثر لأي عدوى”.
أردت أن أتشارك وأياكم هذه الحادثة، لنتعلم من تيريز وكل زملائها في مستشفى رفيق الحريري الجامعي درسًا في الإنسانية والوطنية، فهؤلاء الأبطال وبينما تقاعست المستشفيات الخاصة عن الواجب في هذه المعركة، قفزوا إلى الخط الأمامي، وضعوا أنفسهم في مواجهة عدو شرس متخفٍ، وقدّموا ولا يزالون تضحيات جسام نيابة عن الوطن كلّه، على حساب أولادهم وأمهاتهم وآبائهم، هم ممرضات وممرضو مستشفى الحريري الذين وضعوا تقاعس الدولة عن حقوقهم جانبًا، ولبّوا نداء الواجب بجهود جبّارة، لهم منّا أصدق التحيات القلبية، حماكم الله.
نقلاً عن موقع “لبنان 24” الإخباري