لأن “مارس” شهر خاص بمحمود درويش* بسمة العاطي
النشرة الدولية –
في مثل هذا الشهر من سنة 1941، وُلد الشاعر الإنسان محمود درويش -ولا ندري حقاً هل ولد الشاعر في شهر الشعر مصادفةً أم استحقَّ مارس خصوصيته الشعرية لولادة درويش فيه- الذي اتَّخذ من موهبته جناحاً ومن إنسانيته جناحاً ثانياً ليحلّق في سماء الإبداع، نسراً وحيداً بعيداً عن ثقافة الأسراب. وعندما أعياه الداء وقف على حافة الهاوية، وكتب مرثيّته لأن لا أحد سيجيد رثاءه بعده. اعترف بخسارته أمام العدم في لعبة نرد الحياة، وقال أنا أربح حيناً وأخسر حيناً وأنشد من أنا لأخيب ظن العدم. وبكرمه الفلسطيني المعهود عزم درويش العدم على صحن ملوخية فلسطينية، وشربا معاً نخب الربح والخسارة والحياة والموت والأرض والهوية، هكذا رحل إلى العدم المنتصر الشاعر الذي أحب الحياة. لكن من انتصر حقاً درويش أم العدم؟ فنحن لا نذكر العدم دائماً، غير أننا لا ننسى درويش أبداً.
وكما بكى جلجامش موت صديقه أنكيدو، بكيت ذكرى رحيل جسدك المؤقت عن هذا العالم. وقد أعادوك إلى بروة لا تشبه موطنك. لا تشبه بروة شجرة الخروب ورائحة الخبز الطازج وقهوة الأم وحب الطفولة والهواء المنسم برائحة الزيتون وزهر اللوز وليس برائحة الدماء. ولكنك لحسن الحظ لم تمُت، لأنك مازلت هنا وهناك والآن. تترجل صباحاً من قصيدتك وقد ارتسمت على وجهك ابتسامة حزينة مفعمة بالأمل كالقضية. تشرب قهوتك الصامتة على مهل، لأن القهوة أخت الوقت وعذراء الصباح الصامت التي يفسدها الكلام. تنهي موعدك الصباحي مع أناك، فتمر على المعبر، يسألك المحقق من أنت؟ تجبيه: أنا:
ميمُ/ المُتَيَّمُ والمُيتَّمُ والمتمِّمُ ما مضى
حاءُ/ الحديقةُ والحبيبةُ، حيرتانِ وحسرتان
ميمُ/ المُغَامِرُ والمُعَدُّ المُسْتَعدُّ لموته الموعود منفيّاً، مريضَ المُشْتَهَى
واو/ الوداعُ، الوردةُ الوسطى، ولاءٌ للولادة أَينما وُجدَتْ، وَوَعْدُ الوالدين
دال/ الدليلُ، الدربُ، دمعةُ دارةٍ دَرَسَتْ، ودوريّ يُدَلِّلُني ويُدْميني
لكن المحقق لا يفهم مجازك ويخطئ في تهجئة المعنى. فتخبره مرة ثانية: سجل أنا عربي. لكنه يشير ساخراً إلى جواز سفرك فترد: كل قلوب الناس جنسيتي فلتسقطوا عني جواز السفر! لكنه يعترضك بسؤال أخير: هل تحبني؟ فيأتي جوابك: لا أحبك، لا أكرهك، قلبي مليء بما ليس يعنيك، قلبي يفيض برائحة المريمرية.
وتتجلى خصوصية درويش في كونه لم يكن شاعرا فقط، بل كان رساماً. أحب الدرويش الرسم منذ سنوات طفولته الأولى، لكن حرمته الظروف إمكانية الحصول على الألوان، فاتّخذ من قلمه فرشاة، وشرع يرسم قصيدته اللوحة بلون أسود قاتم، يعكس كل ألوان الحياة. قصيدة تجريدية مفرطة في الواقعية إلى حد الغموض. “لأن الوضوح جريمة والغموض هو لغة الحقيقة”. الحقيقة التي لا تفصح عنها الذات الإنسانية إلا بعد صراع مع قناع الزيف الذي يرفض تسرب المعنى إلى كينونة الذات وتجسد الروحي في المعنوي. فتتسلل الاستعارة متخفية برمزية الأسطورة وأحجية المجاز، لتعكس أمام المتلقي الحقيقة العارية المتحررة من كل سطوة وسلطة.
القصيدة تشبه شاعرها، ولذلك قصيدة درويش خجولة بطبعها، فهي لا تبوح بمكنوناتها من أول لقاء. في الموعد الأول تجلس صامتة تنظر إلى القارئ بينما ينظر إليها، يقرأها مرة تلو الأخرى، لعله يفضح سر شاعرها، يقرأها وتقرأه، يستجوبها وتستجوبه، فتتداخل ذات القارئ بالذات الشاعرة. ولأن القصيدة مرآة قارئها فلا تسأل عن معنى الاستعارة ولا عن دلالة الإزاحة، لأنها هناك في قلبك يكمن معناها، وعلى صفحة عينيك تتجسد ذكراها. فكل عاشق يقرأ في وجه حبيبته مثالية يوتوبيا ومأساة كربلاء. ولكل منا ريتاه التي كان قديساً في محراب عينيها قبل أن تحول بينهما بندقية القبيلة أو العشيرة، أو قبل أن تغتال حبهما رصاصة خيانة طائشة، وكل مواطن عربي ينشد كنا طيبين وسذجاً، قلنا البلاد بلادنا…
ففي عيد ميلادك التاسع والسبعين مازلت لم تنس كأنك لم تكن، لأن تحليل مجازك مازال يؤرق تفكير الناقد، وقصائدك مازالت تقضّ مضجع المحتل، وهويتك باتت سؤالاً فلسفياً كرّس البعض حياته للحسم فيه. وأما العاشق السيئ الحظ، فمازال يقضي ليله يفك رموز قصائدك، لعله يجد تعويذة سحر يفتح بها باب قلب محبوبته الذي لا يسكنه سواك.
طالبة تواصل مغربية