الكتابة وقدرتها على تكسير الأبواب المغلقة في رواية «الملائكة لا تطير»* عبد الله المتقي

النشرة الدولية –

كشفت الإصدارات الروائية التونسية في السنوات الأخيرة، عن اشتغال دؤوب وتحول ملحوظ في الرؤية السردية، وفي بنائها الفني والدلالي، من خلال عناوين لأسماء يعرف القارئ اختلافها وعمقها ووعيها. رواية «الملائكة لا تطير» هي التجربة الروائية الثانية بعد «امرأة في زمن الثورة»، إضافة إلى خمسة دواوين شعرية للكاتبة فاطمة بن محمود.

في هذا النص لا شيء لدى فاطمة تخفيه أو تسكت عنه، لا شيء يتطلب أخذ مسافة للتعبير، ولا ضغوطا قامعة أو كابحة لملامسة المسكوت عنه، من سرطنة للدين واستهتار بالعقل والجسد، كذا إزاحة اللثام عن الغرف الحالكة والسرية للجماعات المتطرفة وتعرية قاعها المظلم، كي يطلع إلى واضحة النهار. فالرواية توجه انتقادا واضحا للتطرف وطرق تفكيره، لتمثل تجربة خاصة في حقل الرواية المعاصرة في تونس، تذكرنا بتجارب تونسية كانت قريبة من نيران التطرف، من قبيل «غلالات بين أنامل غليظة» لعفيفة السميطي، و»أرصفة الضباب أو الطريق إلى داعش» لمنيرة درعاوي، وربما أخذت هذه النيران المساحة الأكبر في نص»الملائكة لا تطير» الذي كان الأقدر على التنويع من هذا الاهتمام، والإجابة المتنوعة والمركبة لأسئلة كثيرة تتعلق بالدين والسياسة والجنس.

عالم متناقض

عمق الرواية إذن، هو الكشف عن التطرف الديني وخطورة استشرائه في خلايا المجتمع، من خلال شبكة من ضحايا اليأس والتشاؤم والإحباط، والأعطاب النفسية، التي اختارت الزوايا المظلمة والتشدد والغلو، مخرجا للتغيير ودخول الجنة، ولو على جثت الأبرياء رفضا لجاهلية القرن العشرين.

تنفتح الرواية على ساردة مرئية، تعلن عن نفسها مشاركة في أحداث نقرأ «خلال خمس دقائق أو عشر ستكون هنا، لن تتأخر أكثر» اتخذت قرارا مهما سأواجهها به ولن يهمني بعده شيء «خلال خمس دقائق ستكون هنا، لن تتأخر أكثر».. قلت هذا لنفسي وأنا أعد القطع النقدية في كفي، وأنظم قراراتي الجديدة في الحياة، وأولها أنني نفرت من الشعر ولن أكتبه بعد اليوم، وثانيهما أنني وقعت في غرام الرواية وأشعر بانجذاب شديد نحوها»، بهذه البداية المربكة والمغايرة لقراءة الوقائع، نكون أمام سارد متمرد على الاطمئنان الذي ترسخ لدينا عن الراوي.

وعليه، تسكن هذه الرواية أحداث وشخصيات تتحرك في عالمين متناقضين: عالم يهيمن عليه التزمت والانغلاق والدجل الديني، والتطرف والعنف من خلال شخصية «سيف» الذي يحتل حيزا كبيرا في الرواية، معتقل إسلامي سابق، منغرس في التربة الواقعية ومفارق لها، مبهم وغامض وغريب الأطوار ومتعدد الأوجه، وجه لله:»لم يكن سيف في البيت، ذهب في «خرجة» مع إخوته في الله لمدة عشرة أيام إلى الجبال للابتعاد قليلا عن مجتمع الفساد والضلال»، ووجه لباخوس «ولد حدة» صديق العربدة: «سأل «ولد حدة» وهو ينظر إلى علبة السلتيا مازالت في يد سيف: وين سرحت يا صاحبي؟ بلل ريقك راحت ربحت عمر جديد، انتبه سيف إلى «ولد حدة» ورد: أرجوك، كفى».

و»ليلى»، الشخصية المندمجة والمصالحة التي اتقد جمرها الديني إبان زواجها من سيف المنسكنة به والمسرفة في الخنوع إليه: «رفعت بصرها مرتبكة من صراخه الشديد وقالت بصوت مرتعش: «نعم إنها فضيحة لا تغتفر»، ثم سألته بصوت واجف: «لكن كيف فعلت هذا، كيف رضيت لنفسها بهذا؟». قاطعها بدون أن يكلف نفسه عناء انتظار انتهاء أسئلتها: هاتي الماء». فـ»نور»التي تشتبك مكونات شخصيتها عبر محكيات عديدة ومتصارعة، ترسم نفسيتها المضطهدة والمعطوبة، من اعتداء لا إنساني على تضاريس جسدها، ونقصد به ختانها الجارح: «حارقة جدا تلك اللسعة، كأن المقص جز طرفا من روحي»، نقرأ ايضا: «في التاسعة عشرة الآن، مختبئة في جلابيبي السوداء الواسعة التي تبتلع وحدها نصفي الأعلى وتنسدل على نصفي الأسفل»، ومن رعاية متزمتة يشرف عليها والدها «سيف» الآلة الجهنمية التي سحقت نفسها ودمرتها:

– «ماما، ماما، أريد دميتي

دفعها سيف بشدة فارتطمت بالأرض وعلا صراخها، لم تكن نور تعرف أن أيام سعادتها ستكون قليلة».

ثم عالم عقلاني ومتحرر تشخصه «ثريا» التي يختزل اسمها سمات من شخصيتها-الضوء، هي أخت ليلى، تمثل الجيل الجديد، وتتبنى خطابا عقلانيا يبتغي تكسير أحادية الصوت، كما تتبنى تحرير المرأة من قيم الأبيسية والطهرانية، هذا العالم المتحرر يهيمن عليه منطق العقل، والانعتاق من كل أشكال تعليب الجسد، تنجذب إليه أيضا وأحيانا «ليلى» و»نور»، من خلال انفلاتات إما واقعية في غياب «سيف» الذي يؤشر اسمه إلى العنف، أو من خلال ركوب قوارب الحلم والشرود: «أخذت ليلى تتمايل على أنغام الأغنية، ثم صار تمايلها رقصا، كان جسدها يتثنى على إيقاع الموسيقى: حركت الكتفين، ثم نصفها السفلي، بحركات رشيقة تتناغم مع ضربات الدف المبثوثة في الأغنية، ابتسمت نور وهي ترى أمها في لحظة عفوية نادرة».

وهو العالم الواقعي والمتحرر نفسه الذي تنجذب إليه الساردة التي تظهر وتختفي وفق لعبة المكر السردي، لتعلق على الأحداث وتحقق في صدقيتها، فهي من تمتلك تفاصيل الوقائع ومتخيلها، وهي الشاهدة والناقدة واللاسعة، وبهذا المعنى لم تكتف الساردة بالحكي، بل تجاوزته لتضيء ما خلف الكواليس من عتمات وممارسات متزمتة، وبهذا اللعب السردي تنسج الرواية جمالياتها.

الختان

ضمن هذا العالم يحدث شيء غريب وواقعة ذات طابع جارح ومؤذ للجسد باسم الدين، المتمثل في الختان، هذه الظاهرة التي تقترب منها الرواية العربية بخجل، على الرغم من أنه اعتداء سادي على الجسد، ونعني به الختان الأنثوي، الذي كانت «نور» ضحية له عبر تشويه طفولتها، إثر ابتلاع الخطاب الديني المتزمت لوالدها «سيف»، وتأسيسا عليه نقرأ اللقطات التالية من هذه المجزرة:

-»عندما مددت رأسي ناحية نور كانت الدماء تلطخ فخديها ولون اللحاف تحتها تحول إلى أحمر قاني».

– «وضع الرجل الغريب الضمادة أعلى فرجها وشدها بالشريط الطبي اللاصق ونور كالعصفور المذبوح تنتفض وتصرخ، أما سيف فما زال يمسكها بشدة حتى لا تتخبط فتزيل الضمادة».

أمام هذه المشاهد القاسية تكون الرواية قد سلطت الضوء على إحدى الظواهر القاسية والمنتشرة للأسف في الوطن العربي: ختان البنات، التي نسمع الكثير عنها ونعرف القليل عن آثارها ومدى انتشارها.

الجنس وتنويعاته

وفي سياق الممنوع والمسكوت عنه دوما، وحتى لا تنسجن الرواية داخل موضوع واحد، نجد في النص عناية خاصة بظاهرة الجنس، لكن تم تناوله من وجهات نظر مختلفة وبمواقف متباينة، وحين نتأمل بعض الوقفات مع الجنس في الرواية، فنجده تارة ممارسة وحشية واعتدائية «وجد نفسه وسط شبان لا يعرفهم لكنهم كانوا مثله، تقودهم رغبة شرسة حولها، تمكنت منهم فحولتهم إلى كائنات متوحشة»، تتجلى في هذه الفقرة حيونة الرغبة الجنسية وإلحاحها الجارف والعنيف، التي تدفع إليها الشروط الاجتماعية القاسية والأعطاب النفسية تعويضا عن الجوع. ثم الجنس الطبيعي الذي يحقق أنوثة المرأة وفحولة الرجل.

تقنيات النص

وبخصوص التقنيات النصية والأبعاد الجمالية في الرواية، نجد أن التعدد اللغوي يشغل حيزا واسعا بانشداده إلى توظيف جمالية الشفوي واللهجة التونسية بقصد القبض على التعبير الدقيق..

«سلام صاحبي

وعليك السلام ورحمة الله وبركاته

يومئ برأسه غامزا وهو يقول:

زقتاش يهديك ربي وتجي معايا

أصمت فيضيف:

بلاصتك فارغة، نشتاقك ياصاحبي

أقول حتى يكف عني:

حاشا لله «

يستوعب هذا المقطع الحواري نموذجا للامتزاج اللغوي داخل المجتمع التونسي، من حيث تلهيج الفصيح: «يهديك، ربي، فارغة، نشتاقك، ياصاحبي» وإن اعتبرت من المحكي اللهجي، فهي من صميم اللغة الفصحى، هذا بالإضافة إلى تلهيج ما هو فرنسي «بلاصتك»، كما ينهض هذا المستوى من التعدد اللغوي على استيعاب اللسان اللاتيني الخالص:»وهذا قد تكون ارتدته ويتني هوستن في «the bodyguqrd».

ولا ريب أن هذا التعدد اللغوي قد ساهم في تحول الرواية إلى محكيات متفاعلة مع التهجين، ليشكل مبدأ حواريا، وانفتاحا ثقافيا بين الخطابات داخل النسق الروائي الواحد، كذلك فالرواية منشدة إلى استيعاب خطابات سياسية ودينية وسينمائية غ، وتتفاعل مع أشكال تعبيرية قديمة «الرسالة والخطبة» عبر تقنيتي المفارقة والموافقة، بقصد إحداث مغايرة داخل الخطاب الروائي، كما تفضي الى تنويعات حكائية، تنم عن مدى انفتاح الرواية على خلفيات معرفية متنوعة.

ومن جهة أخرى تستدعي الرواية مجموعة من الشخصيات السياسية والفلسفية والأدبية والفقهية والصوفية والسينمائية: بن علي، نيتشه، أفلاطون، برميندس، يوسف السباعي، قيس، الشيخ الخطيب الإدريسي، طارق رمضان، حسن البنا، ويتني هوستن و… ومن خلال هذا الحضور لهذه الشخصيات العربية والكونية يتضح انفتاح الرواية على كل الثقافات على اختلاف أنواعها، ثم إن استدعاءها كان نتيجة رغبة الكاتبة في إكساب نصها الروائي صبغة الانتماء المحلي والكوني.

نقلاً عن صحيفة القدس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى