“كورونا” و “زمن العزلة”* رجا طلب
النشرة الدولية –
لو كنت قاصاً أو روائياً وفي حضرة “كورونا” وسطوته، كما هو حالي الآن، لكتبت رواية اسميتها “كورونا وزمن العزلة” مستفيداً من اسم الرواية الشهيرة “مائة عام من العزلة” للأديب الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز.
فما فعله هذا الفيروس خلال أربعة شهور غير وجه العالم ولا يزال يغيره وبوتيرة أسرع بكثير من الحروب، وجنون الطبيعة من براكين، وزلازل، وفيضانات وأعاصير، وربما يغير وجهاً من وجوه التاريخ المتعددة والمتصادمة.
كورونا يعيش على وقع العولمة ويستثمرها، والعولمة هي النظام العالمي الجديد الذي بُني على أنقاض نهاية الحرب الباردة في مطلع التسعينيات من القرن الماضي، وأنهى الثنائية القطبية بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة الذي دخل مرحلة الاحتضار، و أقصد بذلك أن فيروس كورونا يعتاش اليوم بصورة خاصة على وقع سرعة التنقل بين دول العالم الذي تفرضه الحاجة الماسة للسفر، وسهولته والوفرة في وسائله، والتي ساهمت بشكل دراماتيكي في تقليص الزمن والمسافات، بين القارات والشعوب، وهو أمر فرضه النظام الاقتصادي العالمي الجديد، وتشابك المصالح بين الدول وتحديداً الشركات المتعددة الجنسيات بحيث بات الاقتصاد هو صاحب القرار وقزم إلى حد كبير القرار السياسي، أو طوعه لخدمته، مكرساً العولمة الاقتصادية، التى أنتجت على سبيل المثال الاتحاد الاوروبي ودول “آسيان” والعديد من التجمعات الاقتصادية.
خلال الأشهر الأربعة الماضية، أعاد كورونا الزمن إلى الوراء، وفرض على البشرية العودة إلى الانغلاق والتقوقع، وأظهر عجزها الكبير على المستوى الإنساني، ونزع القناع عن أكذوبة التضامن والتعاون بين الدول، وتحولت كل دولة في هذا العالم إلى جزيرة منعزلة عن الدول الأخرى، همها الأول السيطرة على هذا الوباء، والقضاء عليه قبل أن يقضي عليها.
لقد فضح كورونا كذبة التطور والتقدم العلمي المادي منزوع الانسانية، والموغل في سكرات الربح والتكسب، وذلك بعد أن وقفت دول صناعية كبرى عاجزة أمامه مثل إيطاليا، وإسبانيا، وفرنسا، وبريطانيا، والولايات المتحدة، حيث كشف وهن وعجز النظام الصحي في هذه الدول، وهو النظام الذي لم يُعد نفسه يوماً لمعركة عنيفة مثل هذه المعركة التي يغلفها الغموض، والظلام، والتيه.
سيسجل التاريخ أن فيروس كورونا ساهم مساهمة جذرية في تعديل السلوك الإنساني بحيث باتت العزلة والابتعاد عن الحميمية الاجتماعية هي طوق النجاة، وسيكرس هذا الأمر سلوكاً مجتمعياً بدءاً من الامتناع عن المصافحة، مروراً بالامتناع عن التقبيل في المناسبات العامة، وصولاً للحد، وبدرجة كبيرة من التجمعات الاجتماعية مثل الأعراس، والحفلات، والمهرجانات وغيرها حتى بعد أن ينتهى كورونا، ويوجد المصل الواقي منه، لأن ما يعيشه العالم من رعب اليوم لن يمر مرور الكرام ولن يكون أمراً عابراً، بل سيترك بصماته على الإنسان، ومحيطه لعقود قادمة وربما أكثر من ذلك.
سيصبح التاريخ الإنساني من الآن فصاعداً مقسماً إلى مرحلتين، وهما مرحلة ما قبل كورونا ومرحلة ما بعد كورونا، وسيبقى السلوك الاجتماعي في المرحلتين عرضة لدراسات اجتماعية معمقة من قبل علماء الاجتماع، والنفس لتبيان الآثار التى تركها هذا الفيروس على إنسان القرن الحادي والعشرين .