قراءة نقدية في رواية «عاصفة تقرأ الضباب» للدكتور جمال سلسع* د. سعيد عياد

النشرة الدولية –

سيميائية العنوان: يلاحظ البعد الرمزي لهذا العنوان بدلالات متعددة، فعاصفة تحيل إلى الثورة، والضباب يحيل إلى المطر بمفهومه المباشر أما في رمزيته فهو يحيل إلى الحرية أو الانتصار، فهذه العاصفة ستضرب الضباب فيتكثف ويتحول إلى حرية كناية عن ثورة قادمة ربما هي الآن الكامنة.

 

سيميائية الغلاف: ثمة ارتباط عميق بين سيمائية الغلافة وسيمائية العنوان، فكلاهما يحيلان إلى دلالة واحدة، فلوحة العاصفة التي تحيل إلى الغضب من خلال تموجاتها الصاعدة في السّماء ثم التواؤها نحو الأرض، وعندما نربط دلالة ذلك مع سيمائية العنوان فإن علامة واحدة وليس سواها وهي الثّورة القادمة.من خلال السرد الروائي سنكتشف أن هذه الرواية  تأتي في سياق الرواية السيرية، فالكاتب وإن لجأ إلى ضمير الغائب فهو يتحدث عن مسيرته النضالية الطويلة ، وبالتّالي فهو كان لصيقا بالواقع الفلسطيني وقادر على قراءة هذا الواقع ومن ثم التنبؤ بما يؤول إلى هذا الواقع المضطرب.

 

لغة الرواية: كان واضحا أن الفضاء الشعري الرحب للكاتب لغة وأسلوبا وبناء فنيا، كان متمددا في نص هذا الرواية، صحيح أن الرواية لم تكتب بتقنيات الشعر لكنها سُردت بلغة شعرية كثيفة وبمفردات رمزية وإيحائية مثيرة تحيل إلى أحداث جسيمة مرّ فيها الشعب الفلسطيني من خلال تجربة الرواي وهو الكاتب نفسه. كما أن التخييل الوسيع يجعل القارئ ينزاح إلى فضاءات أخرى مهمة لم تقلها الرواية مباشرة، وهي فضاءات الحرية والمقاومة. وقد نجح الكاتب من سرد أحدث مهمة في بناء مشهدية روائية درامية تحفز خيال القارئ ليستدعي كل مقومات الصمود والتحدي والمواجهة أيضا. لقد تحايل الكاتب على اللغة المباشرة وحوّل كلماته إلى لغة تصويرية وكأن كاميرة تصوّر الأحداث وتسلسلها، ومن خلال الصّورة الذهنية التي تنشأ هنا يمكن للقارئ أن بني في وعيه ومن ثم في ذاكرته تلك المراحل التاريخية التي تتحدث عنها الرواية وكذا قادم الأيام المتوقع، إنه ربط مميز باللغة بين ماض وبين حاضر وبين مستقبل يتنبأ به الكاتب. لا شك أن تصوير المشاهد باللغة عمل شاق ومصنٍ، لولا بنية الشاعر الشعرية واستفادته من تقنيات اللغة الشعرية لما تمكن من هذا البناء الفني لنصه. لقد مكنته اللغة الشعرية من توظيف تقنية التداعي الحر، فهو يبوح ما في داخله دون قيود أو حرج، فيجعل الكلمات تصوّر وتبني دلالاتها ومعانيها بحرية وصدق وإن تبدو أحيانا للبعض غير واضحة في سياقات محددة، لكن تأثيرها السيكولوجي كبير. لقد تميزت لغة الرواية ببلاغة واضحة ومؤثرة تؤكد قدرة الكتاب على تطويع اللغة واستنهاض جمالياتها من باطن الحروف والكلمات والتعبير بها بقوة النص وجزالته، فانضاف التركيب اللغوي البلاغي في النص ليقدمه بقوة الأحداث التي تشكل بنية السرد.وهذا جهد إبداعي ليس سهلا، فتوظيف اللغة الشعرية وببلاغة متميزة هو معاناة إبداعية وجهد فكري كبير.ما يميز لغة الرواية أن الكاتب كتب سرده بجمل قصيرة منسوجة بدقة، طبقا لمسارات الأحداث وطبيعتها، فأحيانا تكون جملا فعلية وأحيانا تكون جملا اسمية، والجمل القصيرة هي اقتصاد في اللغة وتكثيف للمعاني والدلالات وتخلّص من الحشو الاستطراد الممل، ويكمن الإبداع هنا أو أن تقول ما تريد أن تقوله بأقل كمات دون إخلال بمضمون الرسالة أو الفكرة التي نحملها الجمل أو الفقرة أو سياقات السرد. وبالتأكيد ساعدت الجمل المكثفة القصيرة على تحقيق المشهدية (السينمائية) سرد الرواية.

 

اللغة الدينية: ربما ما يميز كتابات الكاتب الشعرية والروائية، قدراته على استدعاء لغة دينية من النص الديني، بحذر وبقدرة فائقة على الدلالة العميقة لهذه المفردة أو تلك دون إظهار البعد الديني فحسب. فالسرد يستدعي الفداء والتضحية من مفردات «الصلب» و»الصيب» و»درب الآلام» و»الجلجلة» وعلى هذا النحو. فالكتاب مسكون باللغة الدينية لما لها من تأثير سيكولوجي على المتلقي دون توظيف تبشيري أو دعوي. فالمفردات الدينية أو ذات الدلالات الدينية هي اللغة الإلهية السامية التي تحمل في ثناياها تحفيز القارئ المظلوم المضطهد لأن يكون عاصفة تقرأ الضباب. فالصليب ودرب الآلام وبشارة النجمة وسواها الكثير هي إكسير للثورة على الظلم وعلى الاحتلال وعلى الواقع بكل دهاليزه المظلمة وما فيه أيضا نور شمعة تقاوم موتها.الكاتب لم يحاول بواسطة لغته تلقين القارئ بما يجب أن يكون عليه، هي حملته في على حروفها وحلقت به بالخيال والمتخيلات إلى ما وراء الواقع لينتج واقعا مختلف ثم يعيد بناء حرية ومستقبلا.

 

الأسلوب: حينما تتعمق في النص، سنجد أن الكاتب وظف أسلوب السرد الحكائي، فثمة قصة، فلا رواية دون حكاية أو قصة، حتى لو بلغ حجمها ألف صفحة. الحكاية هنا هي حكاية الشعب الفلسطيني وقصته الطويلة مع الاحتلالات المتعاقبة. والذي لفت انتباهي أن الكاتب تمكن بأسلوبه الشيق ولغته الشعرية أن يسرد حكاية الشعب الفلسطيني وحكاية فلسطين الوطن من خلال حكايته شخص، وهذا الشخص هو الكاتب نفسه بطل الرواية. كان ذلك صريحا في سياقات النص والسرد وبالتالي فأي فلسطيني يمكنه أن يظن أن بطل الرواية هو قارئ هذه الرواية، ما يعني أن الكاتب وإن تماهى مع البطل فهو بنى نصا منعا بأن البطل هو أي فلسطيني آخر. وهذه في جوهره إبداع متميز للكاتب ولغته وأسلوبه.وتمكن الكاتب باقتدار أن يعكس الجانب الآخر من الواقع الفلسطيني  بتركيزه في غير موضع من السرد، على الوحدة الوطنية للفلسطيني بتنوعها الديني، من خلال استدعاء رموز هذه الوحدة المتمثلة في الكنيسة والمسجد. فالكنيسة هي كنيسة الكاتب والمسجد هو مسجد الكاتب أيضا، وكلاهما المسجد والكنيسة  برمزيتهما وبواقعهما المسلوب من طرف الاحتلال، هما علامات هذه الوحدة بما يجمعهما من استيلاب واحد ومحاولة هدم رمزيتهما.

 

هذه الرواية: تنفتح رواية «عاصفة تقرأ الضباب» على الرواية التجريبية، تلك الرواية بمفهما الفني التي لم تكتل بعد. والتي تنهل من كل الأجناس الأدبية، الشعر، والحكاية، والمسرحية، والقصة، وبالطبع من تقنيات الرواية الكلاسيكية، فضلا عن المقال والتحليل والتعليق.  فالكتاب وظف كل هذا في سرده فتعددت الأصوات بكل انثيالاتها وتجلياتها الفنية والفكرية وما يمكن أن تبنه في وعي القارئ.

 

الضمائر: ظهر الراوي  المتماهي مع الكاتب من خلال الراوي المشارك، فهو يعرف الأحداث ويسردها ويرويها من قرب ومن كثب، ففيها تفاصيل حياته وتعليمه وشعره ودراسته . وقد ساعد توظيف الضمير الغائب على أن يرى الراوي الأحداث من الخارج أيضا، وبالتماهي والرؤية من الخارج استطاع الكاتب أن يحدث تداخلا ما بين النفس الجوانية المتفاعلة مع الأحداث وما بين مالا يراه الكاتب من الخارج  إلا بالواوي الآخر. فهذه تقنية صعبة لكن الكاتب نجح إلى حد يمكن وصفه بالابتكار الفني.

 

الحوار: الحوار جزء أساسي من تقنيات الرواية ويفترض نظريا أن يشكل 30 بالمائة من فضاء الرواية إلى جانب السرد الحكائي والوصف. فيهذه الرواية كان الحوار مقلا. فالحوار ضروريا لتعميق الشخصيات ويكشف أسرارها وتفاصيلها ويعبر عن الآراء التي لا يمكن للسرد أن يبوح بها. وكذا أنه يريح السرد ويمكن القارئ من التنوع في القراءة والولوج إلى دواخل الشخصيات.ربما أم ضعف الحوار في الرواية، كان اعتماد الكاتب على تقنية التداعي الحر وتماهيه مع البطل فسمح لنفسه كراو مشارك أن يسيطر على السرد والنص، حتى أن المونولوج وهو الحوار الداخلي كان محدودا، فسيطرة الكاتب أو الراوي على الأحداث لم تسمح بظهر شخصيات رئيسة أخرى في النص.

 

الفنتازيا: في عديد المشاهد التي حفلت بها هذه الرواية، كان الكاتب أو الراوي يستنطق الأشياء وأحيان يؤنسنها، فهو يسأل الحجارة وهي تجيب في إشارة لحجارة أطفال انتفاضة عام 1987.في ضوء ما تقدم وإلى ذلك، يمكننا أن نقول أن رواية «عاصفة تقرأ الضباب» هي رواية تجريبية بأسلوب شعري تقرأ قصة شعب من خلال فلسطيني التقت فيه كل تفاصيل حياة الشعب الفلسطيني، فهي رواية تجمع بين الميلودراما إن جاز التعبير وبين الحكاية ذات الأصوات المتعدة من خلال تصوير الأماكن واستدعاء الأحداث بقوة والبناء بها فنيا نصا روائيا جديرا بالقراءة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button