ثنائية المرأة والدم في الثقافة الذكورية… سيشكرني كل الناس حين أغسل عاري بيدي* ذكريات البرام

النشرة الدولية –

ضرب الباب بالفأس، وصرخ: “سيشكرني كل الناس حين أغسل عاري بيدي، لن تجدي من يقف بجانبك”.

هذه الجملة الضاجّة بالدم؛ كان بيني وبين تحققها بضعة أمتار، وقدر رحيم يشبه خيوط العنكبوت!

فقبل انتقالي إلى الولايات المتحدة الأمريكية بيوم واحد؛ عام 2014، كنت في إحدى محلات الطباعة والإنترنت لنسخ الأوراق التي كانت تلزمني للسفر، وأنا في طريقي للخروج من قسم النساء المعزول في المحل لدفع الحساب؛ صادفت في ذات المحل “قريبا لي” لم أره منذ زمن.

مرت دقائق حتى أستوعبت حجم غضبه، ونظراته المتوهجة نحوي بحقد كبير، وبدا على وجهه غليان كثيف لمحته جيدًا في زم شفتيه، رغم محاولتي اليائسة لتفسير سبب تواجدي هنا للضرورة. غادرت مسرعة بعد أن تلقيت وابلاً من اللعن والشتائم العنيفة، وتهديدات مرعبة. كنت أسترق النظرات للخلف ليهدأ قلبي بالابتعاد عنه أو اختفائه، وأنا أجر بيد ابنتي التي تنظر إليّ بخوف وغرابة، وأنفاسها تتسابق كما أنفاسي المرتعدة. لكنه ظل واقفًا هناك، بجانب بوابة المحل يرقبني حتى غبت عن نظره، وعيناه تتلفتان يمنة ويسره، كما لو أنه يضمر شيئًا ما. كانت تلك المحلات في بداياتها تحمل شبهة سيئة لدى اليمنيين لمن يرتادها من الذكور، فكيف بالإناث، وإن كانت النظرة قد اختلفت الآن عن الذكور، فبالتأكيد لم تتغير عن المرأة التي تقودها الحاجة لهذه الأماكن.

في منتصف ليل ذلك اليوم، سمعت طرقات قوية ومتسارعة على باب منزلي، نهضت من نومي مذعورة، مستنكرة قدوم أحد ما لبيتي في هذه الساعة المتأخرة من الليل، وأنا التي أسكن وحدي منذ زمن مع بناتي الصغيرات، بعد أن أخذت قراري بالانفصال عن والدهن (مات لاحقًا).

توقعت خبرًا سيئًا يُزف إلي أو أمراً طارئاً، سرعان ما تلقيت رسالة من جارتي الساكنة قبالتي تخبرني أن قريبي فلان – كانت تعرفه – واقفًا أمام منزلي حاملاً فأساً في يده أو ما نسميه بالعامية “مفرس”، وقالت برسالة حازمة من غير تلكؤ “لا تفتحي الباب”! كان ذلك المحتشد على الباب هو ذاته قريبي الذي قابلته نهار اليوم في المحل!

أدركت لحظتها أن خطرًا ما قد تيقنته جارتي. كنت أجول في المنزل كحشرة طائرة تتخبط لا تعلم أين نجاتها. أغلقت باب غرفتي التي تنام فيها بناتي الصغيرات حتى لا يمكن لهن رؤية مشهد أليم في حال استطاع قريبي الغاضب الدخول، ووضعت مفتاحها بداخل مزهرية مملوءة بالزهور الصناعية الملونة.

تكومت على نفسي في ركن الصالة المظلمة، أراقب فيها نفاد الشمعة، فلا كهرباء لدينا، ويدي المرتجفتان بالكاد يمسكان الهاتف من الخوف والهلع، وطرقات قلبي المتصاعدة لها دوي أسمعه كما أسمع صوت طرقات الباب الغاضبة .

أرسلت لجارتي صورة المزهرية دلالة لوجود المفتاح بداخلها وطلبت منها مساعدة بناتي، ودموعي تنثال من قلة حيلتي حين كانت تتوالى رسائلها: اتصلي بأحد من أقربائك، أو بالشرطة، هذا الفتى يبدو غاضبًا جدًا!”.

لم أخبرها أنني خائفة منهم أيضاً، ولعله اليأس قد منعني من ذلك. كانت دقائق وظننتها ساعات طوال، حتى سمعت صوت زوج جارتي يملأ مسامعي وهو على علو مرتفع من نافذة منزلهم الكبير “يا أخ، مابش أحد في البيت”، لم أستطع سماع صوت قريبي أو أظنني لم أود سماعه، حين سمعت صوت جاري يكمل حديثه: “مش عارفين والله، لكن يا أخي لو سمحت لا تدق الباب هكذا، فجعت علينا الجهال هذه الساعة”.

سمعت جيدًا صوت الفأس وهو يهوى على الباب عدة مرات، وصوته الغاضب أخيراً وهو يصرخ قائلاً: “سيشكرني كل الناس حين أغسل عاري بيدي، لن تجدي من يقف بجانبك”.

على الرغم من أنه غادر الحي يجر خيبته، ولعل صغر سنه وقلة خبرته وجهله كانت السبب لقدومه في ساعة متأخرة من الليل مما أدى إلى عرقلة ما كان ينوي فعله؛ غادرت أنا اليمن في اليوم التالي، إلا أن تلك الجملة ظلت تتردد في مخيلتي زمناً طويلاً: “سيشكرني الناس حين أغسل عاري”. لماذا وكيف، ومن جاء بهذا القتل الحلال الذي يباركه الناس؟!

تذكرت قصتي هذه – التي تنقصها تفاصيل متعددة – وأنا أتابع قضية الطفلة إصباح يحيى مهدي التي قُتلت على يد أخوتها الثلاثة، وبأمر من والدها المغترب، وانتشار هذه القصة التي حدثت في شهر مارس/آذار 2020، كان سبباً لأرق لازمني لأيام وليالٍ عديدة، وأنا أتذكر جملة قريبي قبيل مغادرتي البلاد، هذه الجملة بكل حمولاتها كانت سبب موت إصباح الطفلة، إنه القانون الذكوري ذائع الصيت في بلادنا “غسل العار” .

فلسبب يعود للشرف كما تراه السلطة الذكورية، واشتباه في سلوك الطفلة، يأمر الوالد يحيى من غربته أولاده بضروره عقاب إصباح وقتلها لغسل عارهم.

تم تصوير الطفلة المعذبة مع الأدوات المستخدمة من قبل أخوتها، وهي تشرب السم بيديها كما أمروها، إلى أن تم شنقها أخيرًا وصعود روحها إلى السماء. أرسل الاشقاء كل تلك الصور الموثقة بالشرح لأبيهم حتى يتأكد أنهم أطاعوه وفعلوا ما أمر به بفخر، فكانت جريمة هزت الشارع اليمني وأدمت قلبه.

لكن مع مراجعة بعض ردود الفعل المؤيدة لهذة القضية وما سبقتها من قضايا الشرف المماثلة، ووقوف بعض العنصر الذكوري إلى جانب القتلة؛ يضعنا هذا السلوك الغريب أمام تساءل مهم، إذ كيف لنا أن نوقف مثل هذه الجرائم في حق النساء والأطفال، إذا ما كانت هذة الجرائم تتم بتجاهل أو موافقة القانون العام وعلمه.

 

لقد أقدم الأخوة على هذه الجريمة متفاخرين، لم يأبهوا أو يكترثوا بما قد يحدث لاحقًا لأيمانهم المطلق بأن الذكور من أمثالهم سيقفون إلى جانبهم في هذه القضية، ويعتبرون ماقاموا به حقا لهم، بل عملاً نبيلاً وشجاعاً، ولسوف تذاع أسماؤهم بين القبيلة باعتبارهم أبطالاً، ويصبح فعلهم هذا قيمة تسري في أذهان الأجيال، وتصبح سلوكاً ومنطقاً يقتدى به، حتى وإن كان للقانون المدني رأي آخر؛ فإن قوة العرف ستجعلهم أبرياء، فالعادات والعرف المجتمعي أعمق من حضور القيم المدنية، وأنفذ من قانون الدولة أو حضورها، وهذه الفجوة بين المدنية والقبيلة في اليمن، تملؤها الهيمنة الذكورية، والعادات المحتقرة للمرأة، إذ لم يستطع حضور الدولة في اليمن لعقود طويلة، والانفتاح الثقافي والتعليم والتطور والمؤسسات الدينية والثقافية أن يعالجوا هذه السلوكيات المتصلبة والرؤى المذلة للمرأة، فما تزال السلطة الذكورية بنفوذها المحتقر للمرأة، المتنكر لأدوارها في الحياة، الذي لا يرى فيها سوى عبدة وعورة، هو النسق المهيمن في الثقافة المجتمعية اليمنية، النافذ فيها والمتحكم.

دلنا التاريخ إلى أن الإنسان عبدٌ لعاداته، رغم جهود الأديان والحضارات للارتقاء بسلوكه الذي تفرضه البيئة أو الأعراف أو المصالح والظروف المحيطة، وأن انجذاب الفرد لهذه العادات التي فرضتها سلطة ثقافية ومجتمعية سابقة، ربما يزيد عن انجذابه لقيم الرقي والتطوير والسلوك المسالم، والعدل، وذلك يشكل حزاما مانعاً للفرد ضمن عاداته يصعب كسره أو التحول عنه بسهولة، وانتقال هذه العادات الضارة منها إلى الأجيال المتلاحقة يسير بشكل أعتى من محاولات إحلال قيم السلوك العادل والنضوج والرقي، بل إن هذا التوارث للعادات يعتبره الإنسان أمناً له وسلاماً مجتمعيا، يحمي له ترابطه ويحفظ سلامه وقوته، إنها قوة العادة التي تناهض التغيير وتخشاه، وتعتبره عدوًا دخيلاً يقضي على وجوده الاعتباري ومصالحه، وهذه أكبر معضلة واجهت الأديان والأنبياء والفلاسفة والمصلحين.

لقد خلقت هذه الأطر العتيقة والمخاوف من التغيير عدة قيود غلفت عقل الإنسان وحصرت رؤيته للأمور. فهو ينتمي إلى جماعة أو طائفة أو قبيلة، يتعصب لقبيلته وينفذ قوانينها بكل ترحاب. هذه القيود الاجتماعية والحضارية المترسبة هي سبب تقييد عقل الإنسان اليمني أيضاً ونظرته للأمور من زاوية عاداته وموروثاته الذكورية القديمة، بل هي سبب تأخر مجتمعنا من اللحاق بركب الرقي والتحضر. فالرجل اليمني أو العربي عموماً، يحمل نفساً فيها الكثير من المشاعر المكبوتة والرؤى الدفينة والعواطف المتأرجحة، ولا يخرج منها إلى بصيرة المعرفة والعدل السلوكي إلا من ارتقى بعقله، وخلص من تلك القيود وآثارها في نفسه بفعل المعرفة والانفتاح والاتزان العقلي والسلوكي.

أشار هنري توماس إلى أن المنطق القديم هو منطق العقائد الموروثة لا منطق المعرفة النامية، فهو منطق يصلح للهجوم والادعاء، لا يصلح للحقائق الجديدة. من هذا المنطلق أنا على ثقة بأن الأجيال اليمنية القادمة ستتجاوز بعقلها ومعرفتها كل تلك الموروثات القديمة التي تتضمن أي معتقد شائع ضد الإنسانية وقيم العدل والتساوي، من ذلك القتل الحلال تحت قانون “غسل العار”!

إن الغضب الذي رافق قضية إصباح – على الرغم من وجود فئة كبيرة لا تزال مأسورة لموروثات تلقونها في نشأتهم الاجتماعية تقف بصف الجناة – والاستنكار الذكوري وإن كان ضئيلاً؛ يفتح لنا كوة للضوء، ويحث على الاستمرار في الكفاح ضد كل ما هو منافٍ للإنسانية، واسترداد مكانة المرأة اليمنية التي تمتعت بها قديمًا، بل وتميزها بالقوانين الحامية لها على سائر المجتمعات كما كتب د.فارس البيل في أطروحته لمجلس حقوق الإنسان في جنيف 2020 عن المرأة اليمنية، وأوصى بأن فقدان المرأة لحقوقها والتحريض الدائم عليها يساعد على خلق بيئة متطرفة عنصرية تظل تهديدًا دائماً لكل قيم السلام والأمن الدوليين.

أخيراً؛ فإن الخوف الذي تكومت به تلك الليلة المشئومة، ينتابني اليأس فيها وتحاصرني الخيبة، أترقب الموت وروحي ممتلئة بالأسئلة والعتاب لهذا المجتمع الذي أعطى تصريحه لفرد ما بقتلي دونما وجه حق، سوى مجرد شك وإرضاء لذويه وعرفه الذكوري؛ هو ذاته الخوف الذي طوق إصباح في لحظاتها الأخيرة، ذات الدموع والخيبة غمرت قلبها الذي توقف للأبد فيما بعد، وقد جالت عيناها للسماء معاتبة، متألمة عن سبب العذاب إثر غلطة لم تثبت، غلطة واحدة في تقدير هذا العرف المتسلط، وإن كانت فرب العباد هو من يغفر ويعاقب، لكن بعضاً من عباده رأوا أنها خطيئة لا غفران لها ولا مسامحه، وتجرأوا بذلك على الله، وهم يظنون أنهم يتقربون إليه!

سنمضى معاً في كسر هذا الظلم، آباءً وأمهات، معلمين وموظفين وعمالاً وهيئات، وذوو العقول النيرة والنخب المثقفة التي ستقف في طريق تغول تلك الموروثات ضد إصباح وبنات جنسها، وردع جماعات غسل العار بالقتل الجسدي المباشر، أو القتل المعنوي بالتلطيخ بالعار نفسه، وسنتجاوز كل هذه العقليات المشؤومة، والأفكار المتوحشة، وسيحكمنا القانون العادل يومًا ما، ما دمنا نؤمن بأنفسنا وقيم العدل والمساواة والحرية.

سنثق بذلك، فالزمن لا يرجع للوراء، مهما حاول سجناء العقل والمنطق من وضعنا في ذات المعتقل الكبير الذي يعيشون فيه.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى