قصتي مع الكورونا * د. رامي شربل
أمضت السيدة صوفي ليلةً صعبة. لم يفارقها الصداع. كان قد أصبح ضيفاً دائماً منذ وفاة زوجها قبل عدّة أشهر، وتقاعدها من تعليم مادّة الرّياضيّات في إحدى ثانويات باريس. لكنّه هذه الليلة حلّ ضيفاً ثقيلاً، وأغلب الظنّ أنّه تزامن مع ارتفاع حرارة جسمها. موجات السعال جديدة أيضاً. قالت إنّها تداويها بخلطة الأعشاب المعتادة، فلاحظت أنّها فقدت قدرتها على الشمّ. لم يخفَ عنها أنّها تعاني أعراض الإصابة بفيروس الكورونا. حاولت الاتّصال على “الرّقم الأخضر” الذي وضعته الحكومة بتصرّف المواطنين وبعد الانتظار والاجابة على بضعة أسئلة، طُلبَ إليها ملازمة المنزل وعدم التوجّه إلى الطوارئ أو طلب “الـ 15” (الإسعاف) إلّا إذا أحسّت بضيق تنفّسٍ أو بألم حادّ في الصدر.
عندما يتسلّل الكورونا إلى رئتي مريض “قابلٍ للمضاعفات”، يطلق سلسلة تفاعلات تبدأ بما يعرف بمتلازمة الضائقة التنفّسيّة الحادّة SDRA، ولا تنتهي بالعاصفة السيتوكينيّة cytokine storm.
وبما أنّ القناع الخارجيّ الذي وضع على وجه السيّدة صوفي منذ وصولها إلى قسم الطوارئ ليلاً لم يعد يكفي للمحافظة على مستوىً مقبول من الأوكسيجين في الدمّ، كان لا بدّ من نقلها إلى قسم العناية المركّزة لإجراء المقتضى.
لم يكن سهلاً عليّ إقناعها بأنّها بين أيدٍ أمينة. خانتني الرسوم الملوّنة المعلّقة على الحائط والقصاصات الورقيّة المتدلّية من سقف الغرفة. خانني التّعبير أيضاً، فوجدت نفسي أناديها باسمها، رافعاً الكلفة كما اعتدت أن أفعل مع مرضايَ الصّغار. ومع أنّ ضيق نفسها لم يسمح لها بالتّعبير عن قلقها، إلّا أن نظراتها أفشت ما جال في خاطرها، وأغلب الظنّ أنّها تساءلت لماذا أُتِيَ بها إلى قسم العناية الفائقة بالأطفال.
لم أجد الوقت لأشرح لها أن قسم العناية بالبالغين فاضت قدرته الاستيعابيّة بعدما استحدث وجهّز 40 سريراً أضافها إلى قدرته الأساسيّة وهي 25 سريراً، وأنّ حال قسم العناية الجراحيّة ليست أفضل، وأنّ المستشفى استعان بنا، أطبّاء عناية الأطفال، لخبرتنا في الإنعاش وفي إدارة الحالات المشابهة عند الصّغار، فبتنا في ما يعرف بـالـ mode dégradé، أي أنّنا نعمل “ما بوسعنا، بما لدينا” لمواجهة كارثة صحّيّة بلا مثيل.
كانت الإجراءات الأوّليّة سهلةً تقنيّاً. نامت صوفي على جرعة مخدّرٍ مصحوبةٍ بدواء يشلّ العضلات، مّا سهّل عليّ، بعدما احتميت بكلّ ما وُضع تحت تصرّفنا من معدّات وقاية، أن أضع أنبوباً في قصبتها الهوائيّة، وأنبوب مصلٍ كبيراً في أحد شرايينها لمراقبة ضغط دمها، وآخر في الوريد لإعطائها الأدوية وتحليل مكوّنات دمها عند الحاجة. ساعدت بعد ذلك الممرّضة وثلاثة معاونين، على تحريك الجسد البالغ 90 كيلوغراماً، لوضعها على بطنها وتحسين وصول الأوكسيجين إلى الرّئتين. وبدأت رحلة الانتظار الطويل والسّير في حقل الألغام المزروع بالمضاعفات.
ثمّ رنّ الهاتف. قال الصّوت إنّ السيّد فيليب بحاجة للعناية الفائقة.
عندما غادرتُ المستشفى في الحادية عشرة من صباح اليوم التّالي بعد مناوبة استمرّت 27 ساعة كانت الطّرقات خاليةً إلّا ممّن اضطرّوا، بفرحٍ أو على مضض، إلى إخراج كلابهم لنزهتها الصباحيّة.
أحرقت الشّمس عينيّ واستصعبت قيادة الدرّاجة عائداً إلى بيتي ثمّ تناهى إلى مسمعي صدى أغنية جوليا بطرس: “بكرا بيخلص هالكابوس، وبدل الشّمس بتضوي شموس”.
نقلاً عن موقع “نداء الوطن” الإخباري اللبناني
د. رامـــــي شــــربـــــل – طبيب أطفال متخصص في الانعاش