الإنسان/ الوحش خارجا من أقبية الفن الإسباني الرائي* ميموزا العراوي

النشرة الدولية –

الأعمال الفنية التي صوّرت أهوال الإنسانية ومخاوف وآفات البشر التي تخطّت الواقع في تحقّقها أو في مجرّد نسخها الخيالية هي بالآلاف. ولكن ربما يبقى العمل الفني الذي أبدعه عملاق الفن الإسباني فرانشيسكو غويا والذي يحمل عنوان “ساتورن يلتهم ابنه” من أهم الأعمال على الإطلاق ومن أكثرها استحضارا لأفكار تتعلّق بطبيعة البشر وبما صنعوه من مآسي في حق ذاتهم أولا وأخيرا.

ولعله أيضا من أكثر الأعمال رائية، لأنه رافق الإنسان في جميع تحوّلاته الوحشية وصولا إلى يومنا هذا مع تفشى فايروس كوفيد- 19 عالميا الذي حصد إلى الآن آلاف البشر في جميع أنحاء العالم “القرية الصغيرة”.

فهذه القرية الصغيرة باتت محكومة بوحش اقتصاد رأسمالي هو من صنع البشر، تغذّى على مدى السنين بالجشع واللامبالاة والغرور حتى بلغ حدوده أقاصي الأرض وألقى بظله على جميع مرافقها الحياتية.

يبدو أن هذا الوحش وصل مؤخرا إلى مرحلة من النضج أصبح فيها يحتاج إلى أن يقتات على البشري، كما حدث في لوحة الفنان غويا. وفي حين يأكل الوالد ابنه في لوحة الفنان، يأكل الابن والده على أرض الواقع العالمي المعاصر.

وأكثر ما يميّز لوحة غويا هو تعبير وجه الوحش المفروض أنه في موقع القوة. فالهلع البادي في نظراته تأكيد على أهم مواصفات الإنسان المعاصر، وهي من ناحية الهلع وصعوبة تصديق ما يفعله هو بحق البشرية التي هو فرد منها، وعدم القدرة على الامتناع من الاستمرار بالنهش في جسدها (في جسده) في آن واحد.

ويستحضرنا هنا، وفي أوجّ أزمة تفشي الفايروس في الولايات المتحدة، الرئيس الأميركي دونالد ترامب وهو يقول مُكرها بما معناه، تحت مظلة سوداء محتميا من انهمار المطر ومنذ أيام قليلة، إنه “يفكر” في إعلان حظر التجوّل.

ومن النافل القول إن أولويات الرئيس في الأيام “الساحقة” التالية هي إنقاذ الاقتصاد الأميركي وثانيا إنقاذ حياة المواطنين، مع العلم أن الأول لا يستقيم من دون سلامة الثاني.

الإنسان تحت مطرقة الفقر والأوبئة (لوحة للفنان فرانشيسكو غويا)

وفي هذا السياق يجدر الذكر أن لوحة الفنان فرانشيسكو غويا هي في تمام اللوحة الرمزية: الكائن المتوحّش “ساتورن”، هو الوقت يأكل أبناءه / الأيام التي مهما تعدّدت هي منتهية ومعها حياة البشر.

ومن ضمن جو هذا العمل الفني القاتم والرائي نعثر اليوم على السباق العالمي المُستميت مع الزمن لأجل الوصول إلى علاج يكبح جماح الفايروس القاتل. وهذا إذا لم يكن هناك سيناريو أكثر رعبا خرج فيه الفايروس مُصنعا هو وترياقه من إحدى المختبرات العالمية لأجل كسر دولة عظمى. ولكنه خرج عن السيطرة أو كُتم الإعلان عن ترياقه حتى تحقيق الأهداف “الاقتصادية”.

من الواضح جدا أن فرانشيسكو غويا في عمله الفني هذا لا يستهين ولا يستثني أي درجة من الفظاعة قد يصل إليها الإنسان المُتحضر. أمعن في إبداع أعمال فنية جارحة وقاتمة تحمل ملامح واقعية جدا ملفوحة بتخيلات مُرعبة لأنها قابلة للتحقّق في أي لحظة.

ونذكر هنا بشكل خاص مجموعة من أعماله أُطلق عليها عنوان “اللوحات السوداء”. رسمها الفنان على جدران منزله في أواخر سنوات حياته ولم يكن يهدف إلى عرضها. رسمها حين تملّك منه المرض وانتشرت الأوبئة واكفهّرت الظروف السياسية والاضطرابات الداخلية المعاصرة له، تلتها سقوط الحكومة في إسبانيا.

لوحات صوّر فيها الإنسان تحت مطرقة الفقر والأوبئة والآفات الاجتماعية حتى استحال إلى مخلوق مخيف يملك حوافر حيوانية ووجوها لشياطين خيالية. ولعل عبقرية الفنان تكمن في أنه لم يرسم فقط وحشية البشر وهشاشتهم في آن واحد، بل رسم ما سيكونون عليه إن خرجت (وستخرج) وحشيّتهم عن نطاق السيطرة بفعل غرور منقطع النظر ولامبالاة مخيفة أقامت فيها الطيور الكاسرة والأسطورية أدمى أعشاشها.

لا نستطيع تحديد تماما كيف يختلف إنسان فرانشيسكو غويا غير الإنساني عن إنسان اليوم، هذا المتبوّئ سدد السلطة والقوة التكنولوجية والنفوذ الاقتصادي، ولا كيف يختلف عن مخلوق “بروميسيوس” الذي صنعه فيكتور فرانكشتاين في الفيلم الخيال العلمي الرائع، من حيث أنه خرج عن سلطة صانعه ليصبح مسخا متوحشا قادرا على القتل بعد أن غذّاه صانعه بطاقة البرق الكهربائية الخارقة وسع سماء شتائية عاصفة كي يبث فيه “الحياة”؟

كلمة تحتاج اليوم إلى الكثير من التأمل وإعادة التعريف. وربما يجيء كلام الفنان فرانشيسكو غويا قادرا على كشف دور الفن في الكشف عن الأساطير المُعاصرة المُشبعة بالأوهام، وقادرا على تصويب الرؤية نحو إنسانية جديدة تقف على مفترق طرق: إما الإمعان بتصفية الإنسانية وإما إنقاذ منطقها وصلب كينونتها من أوهام وشرور قادتها. يقول غويا “الأحلام غير المدعومة بالمنطق تخلق الوحوش المستحيلة. أما حين تكون متّحدة بالمنطق، فهي أمّ الفنون ومُنبعث الروعات”.

زر الذهاب إلى الأعلى