أثر «كورونا» في الإعلام جوهري* د. ياسر عبد العزيز
النشرة الدولية –
في أجواء المتابعة اللاهثة لتفاعلات «كورونا» الخطيرة والسريعة في آن، لم يجد كثيرون الوقت اللازم لتدبر ما قد يحدثه هذا الفيروس من تغيرات جوهرية في الدول والمجتمعات وفي قطاعات العمل والأنشطة الإنسانية.
ظهرت بعض الومضات التي رامت تقييماً إجمالياً ذا نزعة استشرافية في عدد من المجالات، ومع ذلك فإنها خفتت سريعاً، خصوصاً أنها، في معظمها، نحت منحى تعميمياً، واستندت إلى الانطباع، وافتقدت تأييد الأرقام، وبدت رهينة للمخاوف والغموض، ومائلة إلى التشاؤم.
من جانبي، سأجازف وأقترح تقييماً مبدئياً لأثر «كورونا» في صناعة الإعلام، وهو أثر يمكن إجماله في خمسة عوامل؛ أربعة منها إيجابية، أما الخامس فسيكون سلبياً وله تداعيات مؤلمة.
الأثر الأول لـ «كورونا» في صناعة الإعلام يتلخص في أن هذا الفيروس سيشجع الصناعة على إجراء تغيير جذري في آليات عملها، وصولاً إلى ما يمكن وصفه بأنه «نموذج أعمال جديد»؛ حيث سيتم تخفيف أعداد العاملين، والاعتماد على مناوبات لبعض الوقت، والسماح لأعداد كبيرة من الكوادر بالعمل من المنزل، والقيام بتغطيات «ميدانية» عن بعد، وتصميم دورة عمل (Workflow) أكثر ذكاء واعتمادية تقنية.
لقد حدث هذا بالفعل على مدى الأسابيع الفائتة، وحتى هذه اللحظة بدت النتائج أكثر من جيدة، وعبر تقييم النتائج، وتجاوز الأخطاء، ستنتهي أزمة «كورونا» ومعها صيغة عمل إعلامية جديدة، تمت تجربتها، وأثبتت نجاعة.
أما الأثر الثاني لـ «كورونا» في صناعة الإعلام فيتمثل في إعادة صياغة أولويات الجمهور وصناع الأجندات الإعلامية، لقد أمكن لنا أن نختبر قدرة الجمهور على الإخلاص لأولويات جادة، صحيح أن ذلك حدث في أجواء الغموض والخطر، التي تأخذ الجمهور حتماً إلى البحث عن البدائل ضمن التغطيات الموثوقة، لكنه كان تمريناً صحياً على أجندة أولويات لا تتصدرها المعالجات الترفيهية والأخبار الخاطفة للاهتمام والخالية من المعنى.
ويتجسد الأثر الثالث لـ«كورونا» إعلامياً في إعادة الاعتبار لوسائل الإعلام الموصوفة بـ«التقليدية» في مواجهة تلك المعروفة بـ«الجديدة». هنا سيعود الفضل مجدداً لأجواء الغموض والخطر، التي يزيد فيها ميل الجمهور، بحسب خبراء الإعلام، إلى البحث عن المصادر الأكثر صدقاً، والتي تخضع لنمط من المحاسبة والمساءلة بطبيعتها.
بسبب تلك الأجواء من جانب، وطبيعة «السوشيال ميديا» غير الخاضعة لأي نوع من أنواع الضبط من جانب آخر، أُعيد الاعتبار للصحيفة والتليفزيون ووكالة الأنباء، وراحت التفاعلات على «السوشيال ميديا» تنحسر في الأهمية والاعتماد رغم كثافة التعرض، أو على الأقل بات الجمهور أكثر حرصاً على تدقيق ما يرد عبرها، وأبعد خطوة عن الوقوع ضحية لشططها.
واتصالاً بهذه العوامل الثلاثة، وبناء عليها، يبرز الأثر الرابع لـ «كورونا» في الإعلام؛ إذ يبدو أن قطاعات غالبة من الجمهور انخرطت طوعاً في ورشة «تربية إعلامية» (Media Literacy) كبرى.
في هذه الورشة باتت تلك القطاعات أكثر وعياً واهتماماً بطبيعة الوسائل التي تحصل منها على المعلومات، وبسمعتها المهنية، وأكثر تدقيقاً في صحة المصادر، وأكثر رغبة في الاعتماد على مصادر متنوعة موثوقة، وأقل قابلية للتلاعب؛ وهي كلها من نتائج «التربية الإعلامية» الفعالة، التي تستهدف إجمالاً تعزيز قدرات الجمهور على التعامل مع وسائل الإعلام.
في مقابل تلك العوامل الأربعة الإيجابية، يبرز العامل الخامس الذي يتسم بالسلبية للأسف؛ إذ يبدو أن وسائل الإعلام ستُمنى بخسائر اقتصادية كبيرة نتيجة لتراجع عوائد الإعلان، وصعوبات عمليات الإنتاج. قد تتوقف بعض الصحف المطبوعة عن الصدور تحت وطأة الأزمة المستجدة التي تضافرت مع المشكلات المزمنة، وستقلص بيوت إنتاج كبرى عملياتها، وسيتم صرف بعض العاملين.
بسبب «كورونا» ظهر عدد من التأثيرات الإيجابية في صناعة الإعلام، وهي تأثيرات يبدو بعضها جوهرياً، والأمل في أن يكون مستداماً.
نقلاً عن جريدة “الشرق الأوسط”