للحرية كما للحب رائحة الياسمين. قراءة في رواية “الحديقة المحرمة” لــ معز زيود* الكاتبة التونسية سلوى الرابحي

النشرة الدولية –

 

تصدير: كيف أشفى من الياسمين غدا؟ محمود درويش

 

عن حديقة الأجساد حدثنا الراوي، جسد الحبيبة وجسد الأم وجسد الوطن، حدثنا عن حديقة غرس أشجارها ورعى أزهارها لكنها أضحت محرمة عليه كما حرمت على آدم الجنة فالحديقة ليست سوى الجنة مصغرّةً وهي في هذه الرواية تجمع بين اللذة والألم في آن معا، لذة الحب وألم الفراق، هي حمّالة الذكرى وفاكهة الذنب، هي أرض الياسمين والتفاح والزيتون ، أرض تحيلنا على جسد الوطن الحبيب فإن كانت حبيبته ياسمين  خالدة في كيانه  فإن انتفاضة الراوي إبان ” ثورة الياسمين ” يجعل من الياسمين رمزا للحب الخالد وللوطن في آن معا، الياسمين رائحة الذكرى العبقة ، عطر الليل،  بياض السلام، بياض البداية، نموّ الفكرة، التوق إلى أعالي الحرية. والياسمين أيضا في هذه الرواية امتداد الأمس ف” تلك النبتة المكثفة الملتفة بسور بيته نشأت فرعا صغيرا استنبته والده ولقّمه من أصل شجرة الياسمين الوارفة في بيت العائلة”[3] .

القلب عارٍ يا حبيبي* الشاعرة التونسية سلوى الرابحي – النشرة ...

1- سكان الحديقة : تقطن الحديقة أشجار من الخشب الحي ، نساء أحبّهنّ الراوي  فغرسهنّ في حديقة القلب إذ “تعوّد ” نبيّ” أن يشبّه كلّ حبيبة أو عشيقة جديدة أو حتى صديقة مقربة بإحدى شجراته”[4] والأشجار مثل الحب تماما لا تعمّر سوى في أرض سرت بها عروقها عميقا لذلك كان نبي لا ” يعبأ بتسمية النساء العابرات في حياته كالنباتات الفصلية التي لا تمكث طويلا في حديقته”[5] فجسد المرأة بالنسبة إلى الراوي هو كيان بأتم معنى الكلمة فهو ليس مجرد وعاء جنسي أو رغبة متوحشة، إنه جسد واع ولا واع هو الرغبة ممزوجة بالحب ، هو الفكر يتوق إلى الحرية، هو جسد المرأة الحبيبة والأم والوطن، هو هيكل تناقضاتنا وغموضنا، يعشق ويثور ويستكين ، ينمو ويذبل، ينتشي وينزف… ولا طريق إليه سوى الحب بين كائنين مالكين لسلطان الإرادة والرغبة، ، هو ” ذلك الكائن الحي بما هو منبع الوعي والفكر والحركة، إنه أصل ينبع منه كل شكل غامض لأشكال الفكر وأشكال الوعي”[6].

 

ولكل امرأة/ شجرة في حديقة “نبي” اسمان اسم واقعي واسم شجرة في الوقت نفسه ماعدا ياسمين التي اقترن اسمها بشجيرة الياسمين التي زرعها والده فهي “طوق الياسمين”[7] الذي لم يستطع أن يخرج من دائرة نبضه وان تعددت محطات الحب. أما أمه الراحلة ” فاطمة” هي في الحديقة شجرة الزيتون لما يحمله الزيتون من رمزية للثبات والخلود والعطاء الدائم فـ”الزيتون لايموت”[8] وزيتونة الراوي كائن يتفاعل معه “نبي” ويصدق أنها تحمل روح أمه وذكراها بل هو خلط ترابها ب” حفنتين من التراب المبتل بقبر أمه فاطمة”[9].

 

تعددت أسماء الشجرات الحبيبات: (سارة الزوجة/ شجرة التين، أمل الصديقة الحبيبة / شجرة التفاح، زبيدة الأمازيغية/ شجرة التوت، فدوى/ نخلة…)

 

والحديقة محرمة أيها القارئ لكل من يخترق مقدسها ، شريعة الحب : فهي محرمة على الخونة فمنذ اكتشاف نبي لعمالة زوجته أهمل شجرتها ” فتهاوت أغصانها وفتكت الحشرات بلحائها وأوغلت الديدان في امتصاص بريق جذعها”[10] وهي محرمة على العابرات فمثلا ” لاحظ “نبي اصفرارا على أوراق شجرة المندرين التي منح اسمها لعشيقته العابرة…”[11] أما شجرة التفاح فهي المحرم عينه، هي رمز الغواية والخطيئة وفي الرواية كانت أمل( الحبيبة الصديقة) أختا لحبيبة سابقة لنبي ( فدوى)، أمل هي الممنوع المرغوب والإثم الممزوج بالعطاء…

 

لكن المحرّم لم يطل الشجرات وحسب بل طال “نبي” نفسه فحرّمت عليه الشجرات مع كل خيبة وانكسار…

 

في رحلة الحب، أجمعت الحبيبات عل تسمية المعشوق ب” نبي” وفي الأصل هو يحمل اسم ” عبد النبي يوسف” غير أن الحبيبات رأينه كائنا حرا وحمّال رسالة باعتباره صحفيا مستقلا ينقل الخبر ويحلله والنبيّ في اللغة مشتق من النبإ وهو الخبر[12] وإن كان اسم نبي في ظاهره يحمل صفة دينية فإنه يكسر أفق القارئ ويجعل منه نبيا معجزته الحب، حب الحياة، بل هو يرى أن معجزته أبسط من ذلك ” يرى في أمه فاطمة معجزته الكبرى”[13] وهو النبي لأن مبادئه القائمة على حرية التعبير واستقلالية الرأي مرفوضة في زمن تحكمه الانتهازية، ولا تعترف بالحرية مذهبا ولعلي أذهب إلى ما ذهب إليه الشابي في قوله:

 

” جَهِلَ الناسُ روحَه، وأغانيها   فساموُا شعورَه سومَ بخْسِ

 

فَهْوَ في مَذهبِ الحياة ِ نبيٌّ    وَهْوَ في شعبهِ مُصَابٌ بمسِّ”[14]

 

2-خارج سور الحديقة:

 

“في حديقته ينسى الصحافة والسياسة والتدريس”[15]، فهذه الحديقة محرمة أيضا على الصحافة والسياسة والتدريس لكنه يمارسها خارجها بكل ما أوتي من وعي مجتمعي وسياسي وتعليمي. فالقضايا المطروحة في هذه المجالات متعددة ومتشابكة

 

“الصحافة مهنة وقودها الحرية”[16]: في الرواية ينقد بطل الرواية وضع الصحافة والصحفيين إبان الثورة إذ يمكن للصحفي الحر أن يدفع فاتورة رأيه مؤكدا على إيمانه بأخلاقيات المهنية وحرية التعبير حتى لو دفع الثمن باهضا كالطرد أو الاستقالة وهو ما يضع أبطال هذه المهنة وخاصة الشباب منهم في وضعية هشة في زمن تغلب فيه سواد رأس المال على بياض الحقيقة يقول نبي: ” تحدثنا بصوت عال حين صمت الأغلبية. …لا مجال للعودة إلى سخافة ما قبل الثورة . ومن يخشى دفع فاتورة الحرية عليه بالبحث عن مهنة أخرى”[17]. كان نبي حاسما في اختياراته ونلمس ذلك في جوابه على رئيس مجلس الإدارة حين هاتفه ليطلب منه الاعتذار عن مقال نشره بالجريدة فأجابه “بجملة واحدة: طبعا، لست نادما ولا مجال للاعتذار تصورتك تعرفني بقدر أكبر”[18].

القضايا السياسية والدينية: طرحت الرواية عدة قضايا سياسية ودينية ومن أهمها نذكر اشكاليتي الجوسسة والتطرف الديني إبان الثورة  فأحداث الرواية  بهاتين المسألتين حتى أنه كان زوجا ” مغفلا” لسارة  الصباغ المشتبه بها كجاسوسة لطرف أجنبي، فكان الياسمين برمزيته الوطنية “ثورة الياسمين” و وكان الياسمين باعتباره اسما من أسماء حبيباته مهددا بالجوسسة فحتى ياسمين الحبيبة كانت طعما للمشتبه ” جوزيف كان ” الذي اخترق حياتها وجسدها ولوث بياض الياسمين ونقاءه. كما أكد الراوي أن دينه الحرية فهو نبي الحرية بامتياز.

الجانب التعليمي في الرواية: لم يخرج الراوي عن صفة الأستاذ في الرواية فقد عرّف بعدة مناطق أثرية بتونس وهو ما قد  ينمي ثقافة القارئ  ويحفزه على زيارة هذه المناطق فقد حدثنا عن “أوذنة”[19] و” معبد المياه “[20] و”بلاريجيا..”.[21] ولم يفته التعريف بتاريخ النبيذ ” ماغون” على لسان صديقه منتصر: ” ماغون، يا رفاق المُدام، هو عالم قرطاجي يحمل هذا النبيذ اسمه. أخالكم لا تعرفون أنه صاحب موسوعة زراعية في التاريخ حتى سمّي شرقا وغربا ” أب الزراعة.””[22]

 

الحديقة المحرمة لمعز زيود تضع القارئ أمام أسئلة كثيرة من بينها: ما المحرّم؟ ما المقدس؟ ما الجسد؟ ما العهر؟  فهو يحاول خلق مفاهيم جديدة  فمثلا من صور المحرّم هو المساس بحرية الآخر ومن تعاريف المقدس : الحرية ومن  مرايا  الجسد : الثورة على كل ما يحقق غربته  أما العهر  فقد يكون بدائيا إذا كان منتهاه جسم المرأة لكنّ أشدّ أشكاله تطورا هو عهر الفكر.

 

من خيبة إلى أخرى انتقل نبي، حزنت أشجاره حتى كادت أن تلفظه جنته الصغيرة، وأعيد سؤال درويش: كيف أشفى من الياسمين غدا؟

 

لا يشفى المبدع من الحب أبدا، لا يشفى من الأمل، لا يشفى التونسي من حب الياسمين. كانت نهاية الرواية مفتوحة على الأمل… فلا تفقد حلمك أيها القارئ،  انظر إلى ابنته هاجر، زهرة اللوتس، لم تكن مزروعة في حديقته لكنها زرعت في الحلم . تمعن في الصورة جيدا إنها تمسك بشجرة الزيتون، جدتها فاطمة ولن تهجر الحديقة فقط ، ستهاجر خيباتها وألمها. عِشْ بالحلم فإنما الحلمُ حياةٌ جديرةٌ بأن تعاش لكن لا تنس أن تتشبث بجذور الأمس كي لا يطيرك الوهم وحذار، حذار أيها القارئ أن تشفى من الياسمين غدا فللحرية كما للحب رائحة الياسمين.

 

الهوامش :

 

*رواية جديرة بالقراءة ،حين تقرأها ستشتمّ حتمًا رائحة الياسمين .

 

[1] – معز زيود، الحديقة المحرمة، مسكيلياني للنشر والتوزيع، تونس، 2020، 262ص.

 

[2] – معز زيود، كاتب روائي وخبير في علوم الاعلام والاتصال وصحفي اضطلع برئاسة تحرير عدد من الصحف التونسية.

 

[3] – معز زيود مصدر سبق ذكره، ص 191.

 

[4] – المصدر نفسه، ص 193.

 

[5] – المصدر نفسه، ص 196.

 

[6] – سمية بيدوح، فلسفة الجسد، دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع، سلسلة المكتبة الفلسفية، بيروت، 2009، ص 12.

 

[7] – عنوان قصيدة للشاعر نزار قباني.

 

[8] – عنوان رواية للتونسي عبد القادر بن الحاج نصر.

 

[9] – معز زيود، مصدر سبق ذكره، ص 192.

 

[10] – المصدر نفسه، ص 193.

 

[11] – المصدر نفسه، ص 196.

 

[12] – انظر لسان العرب مادة نبأ.

 

[13] معز زيود، مصدر سبق ذكره، ص 199.

 

[14] – أبو القاسم الشابي، قصيدة النبي المجهول

 

[15] – معز زيود، مصدر سبق ذكره، ص 192.

 

[16] -. لمصدر نفسه، ص 65.

 

[17] – المصدر نفسه، ص 65.

 

[18] – المصدر نفسه، ص 64.

 

[19] – أوذنة (أوتنا قديماً) هي منطقة أثرية تونسية تقع على بعد 30 كيلومتر عن العاصمة تونس أنظر:

 

[20] – يعتبر معبد المياه أحد أهمّ الشّواهد التّاريخية على عراقة جبل زغوان. ويعود تأسيس المعبد إلى عهد الإمبراطور هادريان الذي  حكم الإمبراطورية الرّومانية من 117 إلى 138 م. وهو دلالة على أهميّة وقيمة مياه زغوان. انظر

 

[21] – تقع بلاريجيا بسفح جبل ربيعة المرتفع بنحو 649م، على منحدر ضعيف مشرف على سهل مجردة، انظر

 

[22] – معز زيود، مصدر سبق ذكره، ص 72.

نقلاً عن موقع “أنتلجنسيا” للثقافة و الفكر الحرّ

زر الذهاب إلى الأعلى