أيّ ناقد نحتاجه اليوم في ظل التحولات الكبرى؟* حسونة المصباحي
النشرة الدولية –
حين نتمعّنُ في المشهد الأدبي في العالم العربي مشرقا ومغربا، نلاحظ أن هناك غزارة غير مسبوقة في الإنتاج، خصوصا في مجال الرواية التي أصبح يتنافس على كتابتها الشعراء وأساتذة الجامعة وحتى أصحاب الاختصاصات العلمية.
كما نلاحظ أن الجوائز المادية أصبحت تُمَاثل في مقدارها المادي الجوائز المرموقة في البلدان الغربية الغنية. وهذا أمر محمود. لكن ما غائب هو المتابعة النقدية للأعمال الإبداعية التي تصدر بأعداد وفيرة. وبخلاف المتابعات الصحافية السريعة لهذه الأعمال والتي قد تطغى عليها الإخوانيات والمجاملات والعلاقات المغشوشة، نحن لا نكاد نعثر على نصوص نقدية جادّة وموضوعية كتلك التي تميز بها رموز النهضة الأدبية في منتصف القرن العشرين، والذين كانوا يتابعون بعين فاحصة، وفكر ثاقب كل عمل يستحق الاهتمام والتقدير والتشجيع.
كما أنهم لم يكونوا يغفلون في الإشارة إلى ما هو قبيح ورديء وسطحي في أي مجال من المجالات الأدبية. وفي غياب هذا النقد، يمكن أن نقدّرَ ونتفهم احتجاجات البعض من الكتاب والشعراء على جوائز كبيرة تُمْنَحُ لمن لا يستحقونها، أو امتعاض هذا أو ذاك من شهرة يحصل عليها كاتب أو شاعر متوسط القيمة، بل قد يكون أقلّ من ذلك.
لذلك يجدر بنا أن نطرح السؤال التالي: أي ناقد أدبي نحتاجه اليوم في عالمنا العربي؟
أول مهمة لهذا الناقد إن وجد، هو التعريف بالأعمال الجيدة، واكتشاف أصحاب المواهب المغمورة والمظلومة، والذين قد يكونون ضحية إقصاء مدبر من أولئك الذين يعلمون على أن تكون الإخوانيات والمجاملات هي المتحكمة في الحياة الأدبية، أو قد يكونون ضحية أساتذة جامعيين يتعاملون مع المبدعين وكأنهم طلبة في أقسامهم.
لذلك هم يحاولون بطرق شتّى الاستنقاص من قيمة أعمالهم للمحافظة على شعورهم الزائف بالتفوّق، ناسين أن الإبداع الحقيقي والأصيل لا علاقة له بالشهادات الجامعية مهما علت قيمتها. ولو نحن تمعنا في تاريخ آداب العالم، لوجدنا أن كثيرا من مشاهير الأدباء والشعراء “تخرّجوا” من تجارب الحياة وليس من المدارس والجامعات.
المهمة الثانية هي أن يقوم هذا الناقد الذي نحتاجه راهنا بإقناع القراء الذين قد يكونون ضحية النقد الانطباعي الخاضع للتزييف وللمجاملات بموهبة مبدع يكتب في العزلة والصمت، ولا يتردد على المهرجانات والندوات التي قد تلعب دورا كبيرا في تلميع صورة كتّاب وشعراء بلا موهبة وبلا قيمة، ويجهر بآرائه في مشهد ثقافي يفتقد إلى الموضوعية والصراحة والحرية.
ويجدر بهذا النقد أيضا أن يلعب ذلك الدور الكبير الذي لعبه كبار نقادنا العرب، خصوصا د. طه حسين والمتمثل في إزاحة الغبار عن الأعمال المهملة والمنسية، وأن يقوم بربط الصلة بين أعمال جديدة أو قديمة، ويرصد قيمتها الفنية والأدبية والفكرية، وانعكاسها على الواقع الراهن… بل يمكن لهذا الناقد أيضا أن يُعَرّفَ بأعمال من ثقافات أخرى قد تغني المشهد الإبداعي في العالم العربي، وتغذيه بما يمكن أن يساعد المبدعين العرب على ارتياد آفاق لم يألفوها من قبل.
ويجدر بهذا النقد أيضا أن يقدم قراءة مُعمّقة لأعمال أدبية تستحق الاهتمام، مضيئا مختلف جوانبها بحيث يمكن أن تكون هذه القراءة إشارة لانطلاقة أدبية وإبداعية كما حدث مع أعمال أدباء المهجر في العشرينات والثلاثينات من القرن الماضي إذ ساهمت مختلف القراءات التي أنجزت حولها في إذكاء نيران نهضة أدبية شملت جلّ البلدان العربية.
ومن المفيد أن تتركز مهمة هذا الناقد الذي نأمل ظهوره وبروزه بالخصوص على إضاءة العلاقة بين الفن والحياة، وبين الفن والعلوم، والاقتصاد، وعلم الجمال، وأيضا بين الفن والدين خصوصا وأننا نعيش راهنا هيمنة الدين على مختلف مجالات الحياة.
لكن علينا أن نقرّ بأن هذا الناقد يحتاج إلى ثقافة موسوعية، وليس فقط إلى شهادة جامعية، أي أنه يكون متقنا للغة أجنبية، أو أكثر من ذلك، ويكون أيضا قادرا على اختراق الحدود بين الثقافات، وبين مختلف العصور.