ذكريات العزلة في زمن كورونا* لمياء المقدم

النشرة الدولية –

الأزمة التي نمر بها جميعا هذه الأيام والمتمثلة في انتشار مرض كورونا جعلتني أتذكر أشخاصا كثيرين وأتصل بالبعض ممن لم أتصل بهم منذ زمن طويل. وهم ليسوا من العائلة ولا من المقربين وإنما أغلبهم أصدقاء دراسة أو جيران قدامى أو حتى زملاء عمل لم أرهم منذ سنوات طويلة. الأمر نفسه يحصل معي. في صندوق بريدي على وسائل التواصل الاجتماعي رسائل كثيرة وورود وتحيات صباحية وأغان ودعوات وآيات قرآن.

 

يقترب البشر من بعضهم في أوقات الشدة، حتى وإن كان المطلوب منهم أن يبتعدوا لأسباب وقائية ضد انتشار الفايروس. الآخر مهما كان جحيما، كما وصفه الفلاسفة، إلا أنه لا غنى عنه أبدا.

 

في ساعات الحظر والحجر الطويلة تذكرت أشخاصا “غريبين” عبروا حياتي وتركوا داخلها علامات فارقة صغيرة أو كبيرة دون أن أنتبه في حينها، وإلا ما الذي يجعلني أتذكر الجارة القديمة التي كانت تشكو إهمال زوجها وعزوفه عنها، دونا عن الباقين.

 

لم تتقاطع حياتي مع هذه الجارة إلا لفترة قصيرة ولم أعرفها بما يكفي، حتى أنني لا أذكر أنني حملت لها شعورا بعينه، لا الحب ولا الكراهية، لكنني عندما غنيت منذ يومين “عندما يأتي المساء” تذكرتها.

 

أغني كثيرا هذه الأيام لأطرد الوحشة من البيت. قالت لي أمي مرة إن الغناء أفضل طريقة لطرد الخوف من الظلمة. منذ ذلك اليوم أطبق هذه الوصفة في كل شيء: في القلق والأرق والترقب والمرض والوحشة واليأس والاكتئاب والحنين أيضا. وحتى عندما أبحث عن شيء في البيت، مفك براغي مثلا ولا أجده، أغني لأعثر عليه.

 

في صيف بعيد، وكنت أقيم في مسكن للطالبات رفعت صوتي وغنيت “عندما يأتي المساء” بينما كنت أعد شيئا في المطبخ. كانت الشرفة مواربة فسمعتني الجارة وجاءت لتدق على الباب. لوهلة اعتقدت أنها جاءت لتبدي انزعاجها من ارتفاع الأصوات، لكنها فاجأتني بقولها إن صوتي جميل وأنه حرك شيئا داخلها، فبكت.

 

كانت بيني وبينها عشر سنوات على الأقل وكانت متزوجة وأنا شابة يافعة وطالبة في بيت الطالبات فلم أشعر برغبة حقيقية للتقارب أو لبدء صداقة معها. وعندما بدأت تلمح لمشاكلها مع زوجها، أنهيت الجلسة مدعية أنني مضطرة للمغادرة. لم أسع بعدها أبدا لملاقاة الجارة، ولم أغن بصوت عال في ذلك المبنى بعد ذلك اليوم.

 

لكن كورونا والحجر المفروض علينا بسببها هذه الأيام أعادا إلى ذاكرتي تلك الجارة البعيدة التي أبكاها صوتي يوما، فجاءت لتدق على بابي وتقص عليّ ألمها.

 

ما الذي أعاد الجارة، التي بالكاد أتذكر ملامحها، إلى ذاكرتي في ظرف كهذا؟ هل هو الغناء بصوت عال مجددا؟ الأبواب المغلقة على أصحابها؟ فكرة الجوار وما تعنيه الآن تحديدا؟ الشرفات المواربة؟ الوقوف المتكرر في المطبخ؟ العزلة المفروضة على الجميع؟

 

تغير صوتي الآن كثيرا، لم يعد يطرب كما كان. غلبت عليه حشرجة الحساسية واختلط بالأنفاس المكتومة، وبصراخ الداخل فصار أقرب إلى الريح وهي تتكسر على جدار، ولكن من قال إن الطرب هو غاية الأصوات؟

 

لم تبك الجارة طربا على حد علمي، ولكن لأن صوتا قريبا خاطبها من خلف الجدران وهدم الصمت الذي كانت تعيش فيه. ظلت شكوى الجارة معلقة كل هذه السنين في الهواء، وظلت دموعها محبوسة لأن أحدا لم يرغب في رؤيتها. أقول لنفسي الآن: كم كانت تلك المرأة حزينة!

 

أذكر فقط أنها تحدثت بجملة قصيرة عن معاناة امرأة مهملة من زوجها. ذلك الإهمال الأكثر إيلاما من كل أشكال العنف.

 

في ظرف آخر كنت سأتمنى لو أنني ساعدتها على نحو ما، حتى ولو بالاستماع إلى قصتها ومواساتها قليلا، أو بالغناء كل يوم في المطبخ، وترك الشرفة مفتوحة، ولكن في ظرفنا الحالي، أتذكرها فقط.. أتذكرها كثيرا.. وهذا كل شيء.

زر الذهاب إلى الأعلى