الكورونا والعالم.. من منظور إسلامي* د. عبد الإله ميقاتي
النشرة الدولية –
انتشر في العالم حديثاً وباء كورونا، الذي عُرف باسم ″كوفيد – 19″. وقد ظهر في الصين، في منطقة صناعية، تُسمى ″ووهان″. وسرعان ما انتشر في العالم كله، حاصداً مئات الألوف، زادت عن المليون ومئتي ألف من المصابين، عند كتابة هذا المقال، وما يفوق الستين ألفاً من الضحايا. ولا تزال هذه الإحصاءات في تصاعدٍ متواصل، إذ يرى بعض المراقبين أن الواقع أكثر بكثير من هذه الأرقام الرسمية المعلنة. وقد عجزت كبريات الدول عن القيام بخدمة المرضى المصابين، وعجزت عن الحدّ من انتشاره، كما عجزت عن اكتشاف العلاج المناسب واللقاح الفعال للحدّ من هذا الانتشار. ومن العوامل المساعدة للانتشار السريع أن هذا الوباء، قد يصابُ به الإنسان، ولا تظهر عوارضه إلا بعد فترة من الزمن، طويلة نسبياً، تتراوح بين 4 أيام و27 يوماً، والمصابُ لا يُدرك فيها إصابته، وبالتالي فهو ينقل إصابته لكل من يلتقيهم. ولم يُعرف عن وباءٍ آخر هذه القوة في الانتشار. ومن التوقعات من وصل إلى بلوغ عدد المصابين ما يزيد على المليار نسمة، وآخر التوقعات لأحد المسؤولين الأميركيين بأن هذا الوباء، قد يبدأ بالإنحسار ثم يتجدّد في الخريف القادم . وقد أشارت الصين إلى احتمال إعادة الانتشار في ووهان بعد أن بدأ الانحسار فيها.
تعدّدت الاحتمالات في كيفية بدء انتشار هذا الفيروس، فمنهم من زعم أنه صُمِّم في مختبرات جامعية، وخرج عن السيطرة بعدها، ومنهم من زعم أنه موجهٌ من دولة ضد أخرى، أو من مجموعة من الدول وتستهدف به شريحة معينة من الأعمار غير المنتجة ويعتبرونها “عالة على المجتمع”، ومنهم من يعتبر هذا الفيروس قد نشأ لا إرادياً بسبب بعض المأكولات، و… . وبغضِّ النظر عن هذه الاحتمالات وصوابية أي منها، يجب القول بأن قوة الانتشار، وسرعته، قد فاقت كل الدراسات وخرجت عن السيطرة، وبرز تأثيرها الكبير على كل الأوضاع في العالم (الصحية والاقتصادية، والخدماتية، والاجتماعية والسياسية والسياحية و…)، وفضحت المؤسسات الاستشفائية والصناعية وغيرها في عددٍ كبير من الدول، التي كانت تُعتبر في عداد كبريات الدول المتقدمة والمتطورة، فكيف بالدول النامية التي لا تزال في بدء سُلّم النمو العام. كما فضحت المستويات العلمية لكبريات الجامعات التي عجزت عن إيجاد اللقاح اللازم لوقف أو للحدّ من الانتشار، كما عجزت عن إيجاد العلاج السليم والأكيد لهذا المرض، رغم مضي 3 أشهر ونيف على حصوله، ورغم تقدّم العلوم على اختلافها تقدّماً كبيراً جداً، لم يجد العالم أجمع حتى الآن وسيلة للحدّ من الانتشار المتسارع، غير الحجر الصحي، والتأكيد على النظافة الشخصية.
والتعامل مع الوباء مأمورٌ به شرعاً في إسلامنا الحنيف، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلّم “إن الله عز وجلّ أنزل الداء والدواء، وجعل لكل داءٍ دواءً، فتداووْا ولا تداووْا بحرام” (رواه أبو داوود)، وفي حديث آخر: “ما أنزل الله داءً إلا وأنزل له دواءً، عِلمَه من عِلمَه وجهِلَه من جهِلَه” (أخرجه ابن حبّان)، لذلك وجب البحث عن الدواء والعلاج ما وَسِع علماءنا ذلك، واستنفار كل الطاقات لإيجاد اللقاح والدواء المناسبين.
والحجر الصحي، مأمورٌ به شرعاً أيضاً، وهو فرض عينٍ لقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم “فِرَّ من المجذوم فِرارَك من الأسد” (أخرجه البخاري)، وفي حديث آخر: “لا يورد مُمْرِض على مصح” (رواه مسلم)، وفي هذين الحديثين الشريفين تأكيد واضح على أهمية الحجر الإفرادي. أما الحجر المجتمعي فقد جاء في حديث ثالث، يقول فيه صلى الله عليه وسلم: “إذا سمعتم الطاعون بأرضٍ فلا تدخلوها، وإن وقع بأرضٍ وأنتم فيها فلا تخرجوا منها” (متفق عليه).
أما النظافة الشخصية، فقد أوْلاها الاسلامُ اهتماماً كبيراً. وجعلها ركناً أساسياً من أركان الاسلام، فالوضوء طهارة وهو فرض الدخول في الصلاة، وفيه غَسلُ أكثر الأعضاء عُرضة للأوساخ، وفيه الاستنشاق والمضمضة لتنظيف الأنف والفم، اللذين هما الأكثر عُرضة لالتقاط الفيروسات والميكروبات على أنواعها، وكذلك غَسلُ اليدين قبل الأكل، في رواية عن أبي سلمة عن عائشة رضي الله عنهما، وأخرجها النسائي، أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان إذا أراد أن يأكل غسل يديه. (وهذا ما ذكرته صحيفة نيوزويك في عددها الصادر في 17 – 3 2020). ولا يغيب عن بالنا، الحديث الجامع: “الطهور شطر الإيمان” (رواه مسلم).
من المؤكد أن هذا الوباء ابتلاء من الله عز وجل، وهو الذي يدبّر الأمر في السماء والأرض، ويدبّر أمر الخلق أجمعين: “قل من يرزقكم من السماء والأرض، أمّن يملك السمع والأبصار، ومن يخرج الحيّ من الميّت، ويخرج الميّت من الحي، ومن يدبّر الأمر، فسيقولون الله، فقل أفلا تتقون” (يونس – 3) فهذا الابتلاء سنة إلهية، من سنن الحياة التي شرعها رب العالمين، لحكمة قد لا يعلمها إلا هو، ومنذ أن خلق آدم عليه السلام وإلى أن يرِث الله الأرض ومن عليها. ولكل ابتلاءٍ أسبابه المادية المباشرة وغير المباشرة، وأسبابه المعنوية الغيبية.
الأسباب المادية:
1ـ النزاعات المتواصلة والمتصاعدة بين الدول، العظمى منها خصوصاً، والتي تسعى لزيادة نفوذها السياسي والاقتصادي في العالم، وما ينتج عن ذلك من حروب عسكرية، وأخرى اقتصادية وبيولوجية وعقائدية و… ويقابلها صراع على غزو الفضاء، وصراع على انتشار الأسلحة النووية، وتسارع في امتلاك الأسلحة الأكثر فتكاً بالناس، وهجوم إلكتروني من هنا، وقرصنة إلكترونية من هناك، ونزاعات على مصادر الطاقة والتحكم بأسعارها، وعلى مصادر المياه، وأحياناً صراعات ذات طابع نفسي وآخر شخصي، وتطرف من هنا وآخر من هناك، وفسادٌ في البيئة هنالك، وفساد في التربية وفي الإدارة وفي القضاء والتعليم… وما إلى ذلك مما يسود العالم بأسره من شرقه إلى غربه، ومن شماله إلى جنوبه. ولا يغيب عن بال أحدٍ كم باهظة هي كلفة هذه النزاعات وهذه الحروب، والتي تذهب هدراً من طريق سدّ حاجات الطبقات الفقيرة في جميع أنحاء العالم.
وإطار العلاج الرباني لكل ذلك في القرآن الكريم والسنة قائمٌ منذ أربعة عشر قرناً من الزمان، بدايته أن الإسلام هو الدين الخاتم، الذي ارتضاه رب العالمين للناس كافة، كما يقول تعالى: “اليوم أكملتُ لكم دينكم، وأتممتُ عليكم نعمتي ورضيتُ لكم الإسلام دينا..” (المائدة – 3). والإطار العام يبقى إطاراً، تَخضع تفاصيلُه لضرورات الزمان والمكان، ولا تخصُّ المسلمين وحدهم، بل المسلمين وغير المسلمين. لذلك كانت التفاصيل دائماً في عهدة العلماء والمسؤولين ليعملوا عليها على ضوء المتغيرات الحاضرة وفي كلّ زمن وحين. ومن الآيات والأحاديث التي تشكل حلولاً لهذه النزاعات الدولية، الآيات الكريمة:
“لا إكراه في الدين، قد تبين الرشد من الغي” (البقرة -256).
“وتعاونوا على البر والتقوى، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان..” (المائدة – 2).
“يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم” (الحجرات – 13)، والخطاب لعموم الناس وليس للمسلمين حصراً.
“ونبلوكم بالشر والخير فتنة، وإلينا ترجعون” (الأنبياء – 35).
وغيرها كثير…..
ومن الأحاديث الشريفة، نذكر:
حديث السفينة: “مثل القائم على حدود الله، والواقع فيها كمثل قوم استهمَوا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها، (وهم الحكام)، وبعضهم أسفلها، (وهم عامّة الناس)، فكان الذين في أسفلها، إذا استقوا من الماء مرّوا على مَن فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً، ولم نؤذِ مَن فوقنا. فإن تركوهم هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوْا ونجوْا جميعاً” (أخرجه البخاري).
“خير الناس أنفعهم للناس” (رواه الطبراني).
“لا ضرر ولا ضرار” (رواه الطبراني وفسّره العلماء أن الضرر ما قصد الإنسان به منفعة نفسه، وكان فيه ضرر على غيره، وأن الضرار ما قصد به الإضرار لغيره، وكلاهما مرفوض).
وغيرها كثير….
2ـ التقدم العلمي الكبير، الذي حصل في أواخر القرن العشرين وبداية هذا القرن، كالرجل الآلي وحلوله محل الإنسان في ميادين العمل، والتكنولوجيا الحديثة، وتوافر مصادر جميع العلوم والمعارف في جهاز بحجم اليد، والصعود إلى القمر… وكل ذلك جعل كثيراً من علماء العالم يغفلون عن المنعم الأول الذي “علّم آدم الأسماء كلها”، وأنزل في كتابه الكريم الأمر بالتعلّم وطلب العلم والزيادة فيه، مهما بلغ شأن المتعلّم، وذلك في قوله: “وقل رب زدني علماً” (طه – 114). وأكد بما لا يقبل الشك أو التأويل، أن العلم والزيادة فيه لا ينتهيان، وذلك في قوله تعالى: “وما أوتيتم من العلم إلا قليلا” (الإسراء – 85). والعبرة في الكورونا، أنّ هذا الفيروس الذي لا يُرى بالعين المجردّة، قد تحدّى به اللهُ تعالى كلّ ما وصلت إليه العلوم في أنحاء العالم بأسره. علماً بأن الله تعالى قد جعل العلم يتراكم على مرّ العصور والأزمان، ولا ينتهي مع حياة صاحبه، والعلم النافع أجرٌ لصاحبه في الدنيا والآخرة.
3ـ الغنى الفاحش والفقر المدقع، في المجتمعات وبين الأفراد. وهو ما حذّر منه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، بقوله: “إن الله سبحانه فرض في أموالِ الأغنياء أقواتَ الفقراء، فما جاع فقير إلا بما مُتِّع به غني، والله تعالى سائله عن ذلك” (نهج البلاغة). كما ورد في الأثر: “عجبتُ لمن لا يجد قوتَ يومِه، ولا يخرج على الناس شاهراً سيفه”. وقد بلغت معالجة الفقر في الإسلام خلال مئة عام من بدء الدعوة، أن الخليفة الراشد الخامس عمر بن عبد العزيز لم يجد من يأخذ من مال الزكاة، لا من المسلمين ولا من غير المسلمين، فأمر بنثر الحبوب على رؤوس الجبال لتأكل الطيرُ من خير المسلمين. ولا يغيب عن بالنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قَرَنَ الكفر بالفقر، فقد كان يقول: “اللهم إن أعوذ بك من الكفر والفقر، ومن عذاب القبر”، ولا تتحقق تنمية المجتمعات في ظل تزايد الفقراء فقراً والأغنياء غنىً، وللأسف الشديد هذا ما يحصل في عالمنا اليوم، وذلك أنه في نهايات القرن الماضي تراجعت نسبة الطبقة الوسطى في جميع المجتمعات لتزداد طبقة المعوزين والفقراء بشكل ملحوظ.
4ـ التراجع الكبير في إعداد الإنسان الصالح، والفاعل في بناء مجتمع فاضل، فقد فقدت الأم دورها الأساس في التربية، عندما نزلت إلى سوق العمل بكل طاقاتها. يقول علماء الاجتماع أن دور الأم في تربية أولادها هو الأساس، فهو يبدأ منذ الولادة ويستمر حتى عمر 8 سنوات، ودورها يصبح مشتركاً مع الأب من 8 سنوات إلى 12 سنة، ودور الأب من عمر 12 سنة فما فوق. ويؤكدون على أن المرحلة الأولى هي الأساس في تربية الفرد. أما الدور الثاني في إعداد الأجيال فهو في المؤسسات التعليمية، والتي للأسف الشديد تحولت من مؤسسات تربوية – تعليمية إلى مؤسسات تعليمية فقط، وغاب دور التربية عنها. وقد استفادت من غياب هذين الدورين الأساسيين، وتلقفت دورهما وسائل التواصل الاجتماعي على أنواعها، والألعاب الإلكترونية الهادفة وغير الهادفة، والمؤثرة في أعصاب الأولاد. وفي هذه الوسائل الكثير من الغث والسمين، والفاحش والقويم، وما يناسب جميع الأعمار والمستويات العلمية والفكرية. وكلنا نعلم نسبة الصدق والاستقامة في ذلك كم هي ضعيفة، والتي غالباً ما يضيع فيها الهدف المباشر، ويرتقي فيها الفحش والتخبط والتسلية، ويضعف فيها خطاب العقل والحكمة، ليحلّ محله خطاب النفس والغريزة.
كما غاب عن دور التربية، والإعداد السليم لبناء شخصية الإنسان الصالح، دورُ الدين والعقيدة ليحل محلّه الدعوة إلى العلمنة والعصرنة. فغابت القيم الإنسانية التي دعت إليها جميع الأديان، وحلّت محلّها العلاقات المادية البحتة، وما فيها من أرباح وخسائر رقمية، أثبتت أمام أزمة الكورونا أنها لا تغني ولا تُسمن من جوع، فتهاوت بسرعة فائقة، ولا أدلّ على ذلك من أعداد الكنائس التي أُغلقت في أوروبا أو تحولت إلى أهداف أخرى غير العبادة.
الأسباب المعنوية الغيبية:
ـ يقول تعالى: “ونبلوكم بالشروالخير فتنة وإلينا ترجعون” (الأنبياء 75)، فالابتلاء هو اختبارمن الله تعالى “بالمصائب تارة وبالنعم أخرى”، كما يقول ابن كثير في تفسيره، فمن صبر على المصيبة ظفر، ومن شكر على النعمة ظفر أيضاً.
ـ للأسف إن كثيراً من الناس لا يدركون قيمة النعمة إلا بفقدانها. والله تعالى يقول: “وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها”. ذكر القاضي تاج الدين السُّبكي في كتابه معيد النعم ومبيد النّقم: “أن نبي الله موسى عليه السلام، ناجى ربه يوم الطور، فقال: يا رب، إن أنا صلّيتُ فمن قبلِك، وإن أنا تصدقت فمن قِبَلِك، وإن أنا بلّغتُ رسالتك فمن قِبَلِك، فكيف أشكرك!؟”. قال: يا موسى الآن شكرتني”. لذلك كان الابتلاء بين حين وآخر، تذكير من الله تعالى بنعمه التي لا تعد ولا تحصى.
ـ وفي المصيبة تنبيه للعبد وتذكير باللجوء إلى الله. يقول تعالى: “فلولا إذ جاءهم بأسُنا تضرّعوا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون”. فهل يختار زعماء العالم وعلماؤه وباحثوه، التضرع الصادق إلى الله تعالى، أم أن قلوبهم أصبحت قاسية وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون؟!. ويقول تعالى أيضاً: “وما نرسل بالآيات إلا تخويفا” (الإسراء – 59)، وفي هذه الآية يقول قتادة: “وإنّ الله يخوّف الناس بما شاء من آية لعلهم يعتبرون، أو يذّكّرون أو يرجعون”.
ـ ويقول تعالى في سورة النحل: “أفأمن الذين مكروا السيئات أن يخسف اللهُ بهم الأرض، أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون * أو يأخذهم في تقلبهم فما هم بمعجزين * أو يأخذهم على تخوّفٍ فإنّ ربكم لرؤوف رحيم” (النحل – 45 ـ 47) أي أنّى للماكرين المدبّرين للمكايد أن يأمنوا أن يخسف الله بهم الأرض (كما فعل بقارون)، أو يأتيهم العذاب من مكانٍ لا يتوقعونه (كأزمة الكورونا اليوم) وهم يتقلّبون في أسفارهم وأعمالهم. أما إذا خافوه ولجأوا إليه فإن ربكم لرؤوفٌ رحيمٌ بعباده التائبين.
ماذا ينبغي على المسلمين فعله في زمن أزمة الكورونا:
أولاً: علينا جميعاً أن نتوجه إلى الله العلي العظيم بكل دعاء مخلص صادق أن يرفع عنا وعن الناس أجمعين هذا الوباء وهذا البلاء. وأن يكون مقروناً بتوبةٍ صادقة أن نقوم لله تعالى دائماً بكل ما أمر، وننتهي عما نهى عنه وزجر. “فما نزل بلاءٌ إلا بذنب، وما رُفع إلا بتوبة”.
ثانياً: المؤمن الصادق لا يفقد ثقته بربه، فلا يكره ما يصيبه أو ينزل به، لأنه يؤمن بأنّ كل ما يكون من الله هو خيرٌ له، ويدفع اللهُ به عنه ما هو أشد منه، كما جاء في سورة الكهف مع نبي الله موسى عليه السلام في رحلته مع الخضر عليه السلام، الذي خرق السفينة، فاستغرب موسى ذلك. وعندما أوضح له الخضر أن مَلِكاً ظالماً كان وراءهم يأخذ كل سفينةٍ تُعجبه، غصباً عن أصحابها. فكان الخرق سبباً في بقائها. وشعور المؤمن بهذا الأمان يجعله لا يقنط عند الشدائد، ويبعث الطمأنينة في نفسه ويقوّي المناعة في الجسم – كما يؤكد ذلك الأطباء الإختصاصيون – وتقوى بذلك مقاومة فيروس الكورونا.
ثالثاً: علينا أن نتعاون كل في ميدانه مع السلطات المحلية، وأهل الاختصاصات الصحية، في كل ما يساعد على الحد من انتشار الوباء، وايجاد العلاج واللقاح المناسبين، وأن يبذل علماؤنا كل جهد مستطاع في ذلك. ونتجاوب مع أصول الحجر المنزلي ومبادئ الطهارة والنظافة، وعدم التجمعات و….
رابعاً: علينا أن ندرك أن الأزمة لا زالت في بداياتها، ولا يزال انتشار الفيروس يأخذ أبعاداً أوسع وأكبر، سواء في ذلك الأبعاد الصحية أو الاقتصادية أو الاجتماعية أو السياسية أو المالية أو…… وإذا كان الإعلام كله منصباً الآن على البعد الصحي، إلا أن الأبعاد الأخرى لا تقل أهمية بسبب التراجع الكبير في مداخيل الأفراد، وزيادة أعداد البطالة بشكل مأساوي، وانعكاسات ذلك على الأوضاع الاجتماعية والأمنية.
خامسا: يرى بعض المحللين أن التداعيات الاقتصادية والمالية لأزمة الكورونا ستفوق أزمة العام 2008. وقد بدأت أعداد العاطلين عن العمل تزداد بوتيرة سريعة جداً منذ بدء الأزمة حتى الآن، ويتساءل بعضهم إذا كان ذلك سينعكس على الاستقرار داخل بعض الدول، أو على الصراعات السياسية والاقتصادية بين الدول، وهل ستكون دول العالم أقل انفتاحاً على بعضها بعضاً، وهل سيزداد القمع بسبب شح الموارد جرّاء الإنفاق الكبير جداً على معالجات وتداعيات أزمة الكورونا؟. ولا يجوز أن يتحكّم التشاؤم فينا. علينا أن نجعل من ذلك سبباً لجهد أكبر، وتكافل وتضامن أمتن، مسلمين وغير مسلمين، دولاً وشعوباً وأمماً، على طريق المعالجات الصحية والتداعيات الاقتصادية والاجتماعية، لأن “يد الله مع الجماعة”. ويكون ذلك ممكناً إذا تخلينا عن سياسة النزاعات الدولية والإنفاق الكبير على الحروب المختلفة، وفي هذا ما يكفي للنهوض بالاقتصاد العالمي، بعد هذه الأزمة.
سادساً: علينا أن نكون كما علّمنا الإسلام – شموليين في نظرتنا، بنّائين غير هدّامين، إصلاحيين غير مخرّبين، فالأزمة تتطلب تضافر الجهود بإيجابية ومهنية وإخلاص. والمعالجات يجب أن تشمل جميع الجوانب والعوامل والأسباب المباشرة وغير المباشرة، المادية والروحية، خصوصاً وأن الأزمة في شدّتها قد ساهمت في صحوة العقول والقلوب، عند العديد من المسؤولين والعلماء وعموم الناس، في العالم، والتأكيد على ضعف المخلوق أمام قوة الخالق المطلقة، والتسليم مع الإنابة إلى الله.
سابعاً: ولا عجب في ذلك، فمراجعة موضوعية لما جرى في الماضي القريب، زمن الأزمة المالية عام 2008 (المحدودة في أبعادها المالية فقط)، فقد كتب عديد من الصحافيين المرموقين في مجلة “تشالينجر”، وفي جريدة “le Journal de Finance” وغيرهما، ينادون بضرورة تطبيق الشريعة الإسلامية، تحت عناوين ظاهرة “البابا والقرآن”، و”هل تأهلّت وولستريت لاعتناق الشريعة الاسلامية” وغير ذلك، ينتقدون المسار الاقتصادي والمالي الذي درج عليه العالم المعاصر، بحجج وبراهين علمية دامغة، وأن الحلول المستقاة هي في النظام الإسلامي المالي والاقتصادي.
واليوم وفي زمن الكورونا يخرج مؤخراً العالِم الأمريكي الكبير بيل غيتس ليقول: “أنا مؤمنٌ بقوة بأن هناك سبباً روحياً وراء كل شيء يحدُث، سواءً كان جيداً أو سيئاً”، ثم يضيف: “يذكّرنا كورونا بأننا جميعاً متساوون، بصرف النظر عن ثقافاتنا وأدياننا أو مهننا أو أوضاعنا المالية أو مدى شُهرتنا، فهذا المرض يعاملنا جميعاً على قدر المساواة…”.
وقبل ذلك نشرت صحيفة نيوزويك الأميركية تقريراً للطبيب كريغ كونسيدين في 17 آذار 2020 في موضوع الكورونا يقول فيه إن خبراء المناعة مثل الطبيب أنطوني فوتشي، والمراسلون الطبيون يقولون إن النظافة الشخصية والحجر الصحي خلال انتشار الوباء هما أهم وقاية من الإصابة، وينسبون ذلك إلى نبي الإسلام محمد بن عبد الله الذي جاء بذلك منذ أربعة عشر قرناً من الزمان.
وقبل هؤلاء جميعاً يؤكد مايكل هارت (غير مسلم) في كتابه: “المئة الأوائل” على أنّ اختياره نبيّ الإسلام محمداً عليه الصلاة والسلام، ليكون الأول في قائمة أهم رجال العالم، لأنه الرجل الوحيد في التاريخ الذي نجح أعلى نجاح على المستويين الديني والدنيوي”.
ثامناً: أسوق ذلك للقول بأن كنوز الإسلام لا تنضب، وعجائب القرآن لا تنتهي، وصِدْق أقوال نبي الإسلام محمد، صلى الله عليه وسلم، ليست بحاجة إلى عالِمٍ من هنا وآخر من هناك، فقد أكد ذلك رب العالمين في قوله تعالى: “إن هو إلا وحيّ يوحى”. فهل نأخذ من كل ذلك العبر؟.
جميع أهل الأرض يجمعون على أنّ “ما قبل كورونا، ليس كما بعدها”، وأن المتغيرات الآتية غير محددة المعالم بشكل واضح، وعلى جميع الصعد. فهل علماؤنا وباحثونا في مختلف القطاعات، العلمية والتقنية، والاجتماعية والاقتصادية وغيرها، قادرون على مواكبة هذه المتغيرات في بداياتها، ويشاركون مع نظرائهم في العالم، بما جاء به الإسلام الحنيف، من خيرٍ عميم، وتكاملٍ سليم، وأُطُرٍ سديدة، ويضعون جميعاً خارطة طريقٍ للمستقبل، تجمع ولا تفرِّق، وتبني ولا تهدم ؟!.
أختم بالقول بأن الخطب جلل، والفساد كبير، والإصلاح مطلوب بإلحاح. لا يكفي أن يصلح كلّ منا نفسه، بل علينا أن نكون جميعاً يداً واحدة لدرء الفساد في مجتمعاتنا وفي بيئتنا وفي مؤسساتنا وفي مدننا ودولنا. ودرء الفساد ومعالجة الخبث تستوجب تظهير الأحكام الشرعية، وإسقاطها على الواقع وتطبيقها بإيجابية بالغة، وتعاون أكيد بين جميع شرائح المجتمع. يقول تعالى: “ظهر الفسادُ في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون” (الروم – 41).
فهل إلى رجوعٍ من سبيل؟!.
نقلاً عن موقع “سفير الشمال” الإخباري اللبناني