جسر فني يربط شارع الغضب اللبناني بتفشي الوباء* ميموزا العراوي
النشرة الدولية –
“لأجل أن تعمّ العدالة في أقصى تجلياتها علينا أن نتشارك في قدرنا، وأن نعي ذلك تماما”، هذا ما قاله يوما المفكر جون رولز، وهذا ما أدركه اللبنانيون اليوم بعد انتهاء الموجة الأولى من الثورة اللبنانية بنتائج كارثية على مستوى السياسة وإيجابية لناحية أنها محت الحدود الوهمية التي فصلت ما بين أفراد الشعب، الذين أدركوا، وربما لأول مرة، بأن ما يجمعهم هو أشدّ عُمقا وأكثر واقعية ممّا يفرقهم.
ما أدركوه هو أنهم شعب واحد يقف ضد سلطة توالدت من ذاتها منذ أكثر من ثلاثين عاما لتبني قصورها بعيدا عن همومهم وعلى أنقاض أحلامهم.
اليوم، وبعد أكثر من شهر على مرور أزمة تفشي فايروس كدوفيد – 19 الذي وضع حدا للجولة الأولى من الانتفاضات الشعبية، وجد اللبنانيون أنفسهم عُراة أكثر من ذي قبل أمام سلطة نصّبت نفسها رغما عنهم وعن ثورتهم.
صحيح بأن وباء كورونا هو وباء عالمي اجتاح معظم الدول وخلّف قتلى بالآلاف وعددا من المرضى هو في تزايد مُتسارع إلى اليوم، غير أن اللبنانيين أبصروا وجها دراميا آخرا للوباء، وجها تمثل بأسلوب تعاطي السلطة مع الأزمة المُستجدة التي حلّت لتزيد من الهمّ المعيشي، الذي كان سببا من أسباب الثورة.
يمكن القول اليوم إن البقية المُتبقية من غير مناصري الثورة اللبنانية تعمّدوا برائيتها اليوم والتحقوا في صفوفها الافتراضية، لاسيما على شبكات التوصل الاجتماعي في انتظار أن يجيء الوقت، وسيجيء حتما، لتنطلق المرحلة الثانية منها التي ستكون أكثر حدة وأكثر إصرارا على تغيير النظام الطائفي والإطاحة بطبقة حاكمة امتصّت رحيق البلد حتى حدود الإفلاس غير المُعلن رسميا.
من الفنانين الذين بنو جسرا ما بين زمن الثورة وزمن كورونا نذكر الفنان اللبناني إيلي أبورجيلي. فنان لم يتوقّف عن مُتابعة حوادث الثورة ومراحلها برسوماته اللاذعة والرائية التي يُمكن نسبها إلى فن المُلصق دون أن يُكرّسها في مجاله.
المُتابع لأعماله المنشورة على صفحات التواصل، لاسيما فيسبوك يشعر بالسلاسة التي انتقل فيها الفنان من مرحلة الثورة إلى مرحلة كورونا بخفة ونضوج في الرؤيا في آن واحد.يحار المُتأمّل في معظم رسوماته، التي تعتمد على تخطيطات مينيمالية وتقشّف لوني كبير، إن كانت الحالتان مُتتاليتين زمنيا فقط أم أنهما مُتلازمتان حينا ومُنبثقتان من بعضهما البعض حينا آخر.
ربما بالنسبة إلى الفنان ليس هناك فارق حقيقي بين المرحلتين، لأنهما استكملتا معا عزف نشيد التخلّي الكبير الذي يُنصت إليه اليوم كل لبناني، إن كان محجورا في منزله يستمع إلى أخبار سلطة استهترت بالوباء في البداية ثم تعاملت معه من خلال هم الحفاظ على مصالح أفرادها الشخصية، أو من كان هائما في الشوارع باحثا عن رزقه رغم خطر الإصابة بالفايروس.
الفنان أبورجيلي لم يتوقّف عن مُتابعة حوادث الثورة ومراحلها برسوماته اللاذعةالفنان أبورجيلي لم يتوقّف عن مُتابعة حوادث الثورة ومراحلها برسوماته اللاذعة
لم يدع الفنان إيلي أبورجيلي أيّ حادثة تمرّ في زمن كورونا دون أن يلتقطها ويحوّلها إلى عمل فني حاد اللهجة ومُغمّسا بسوداوية النكتة القاتلة، بداية بكيف رضخ الشعب اللبناني للحظر الصحي بناء على توصية من محطة تلفزيونية لبنانية ولم يصغ إلى وزير الصحة حينما طلب ذلك متأخرا، وصولا إلى المُساعدات المالية التي تنصّل منها أفراد السلطة السابقة والحالية. مُساعدات هي أدنى حق شعب نُهب على مراحل. مُساعدات عينية ومادية يحتاجها عدد هائل من الشعب اللبناني تحت خط الفقر وفي فك البطالة المُزمنة.
رسم إيلي أبورجيلي وكثَف وكتب واستحضر إلى قلب رسوماته صورا فوتوغرافية بوعي فنان موهوب وحاذق. أغدق على رسوماته الإشارات اللاذعة مُتناولا جوانب الثورة وما تلا مرحلتها الأولى من أزمة صحية ومادية مُتفاقمة. وأشار إلى الأموال المنهوبة التي كان استردادها من إحدى أهم مطالب الثورة اللبنانية قبل أن تجيء أزمة الفايروس وينفجر الوضع في وجه اللبنانيين ويسقط كالسخام المُؤكّد على وجوه أهل السلطة.
اللبنانيون وحيدون اليوم أكثر من ذي قبل. هم يواجهون شعور التخلي بأبشع صوره في زمن أقل ما يحتاجه الشعب هو الثقة بحكومته وبجهوزيتها للتصدّي للوباء. جهوزية ليست موجودة اليوم مثل عدم جهوزيتها عندما اندلعت الحرائق وأودت بالمئات من الأشجار المُعمّرة في لبنان قبيل اندلاع الثورة.اللبنانيون وحيدون اليوم أكثر من ذي قبل. يواجهون الإحساس بالخيانة والغدر أيضا، عندما تصلهم الأخبار عن تحايل الحكومة بتمريرها لصفقات تحت جناح كوفيد – 19 المُظلم، وكيف استغلت عدم قدرة الناس على العودة إلى الشوارع كي يتظاهروا ضدهم وضد مُمارساتهم المُزمنة.
لم يكن اللبناني ينتظر من السلطة أيّ موقف وطني. ولكن أن يعيش هول هذا التخلي في أقصى ظروفه، أي عندما يطال الخطر الصحة العامة مباشرة، أمر لم يكن في الحسبان. أمر ستترتّب عنه نتائج كارثية خلال أزمة انتشار الفايروس القاتل وبعد أن تمرّ. إيلي أبورجيلي من الفنانين المُدركين لذلك تماما، وهو بكل تأكيد لهذه النتائج ومُسبباتها بالمرصاد وللثورة عليها بما يملك من موهبة وفطنة.